بلى، يكاد قلبي يغادرني، وأنا استعرض ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية من أجل قيام الكيان الصهيوني فوق أرض بلادنا العزيزة فلسطين، فهي لم تكترث بتهجير سكان أكثر من 600 بلدة فلسطينية ريفية إلى خارج الحدود الفلسطينية لـ (لبنان، سوريا، الأردن) بالإضافة إلى طرد وتهجير الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في المدن عدة، بينها: عكا وحيفا ويافا والقدس، كان عدد هؤلاء حوالي مليون نسمة، لقد تركوا بيوتهم، وحقولهم، وعمرانهم، ومدارسهم، ومشافيهم، ودور عبادتهم، ثم وبعد "11" دقيقة فقط من إعلان بن غوريون 1886-1973 عن قيام كيان "إسرائيل" اعترفت الولايات المتحدة الأميركية بشرعيته، ثم أرسلت سفيرًا أميركيًا بعد ساعات، ثم توكلت بحماية هذا الكيان والدفاع عنه عالميًا في كل الدنيا، واستغلت الفيتو ورفعته، مثل سيف، بوجه كل ما يهدد إسرائيل، وقد سبق الاعتراف بالكيان الإسرائيلي دعوات أميركية عدة لقيام هذا الكيان، ولعل أعلاها صوتًا، كانت دعوة الرئيس هاري ترومان 1884-1972 الذي أنهى الحرب العالمية الثانية بقنابل نووية، ألقاها على ناغازاكي وهيروشيما، لقد نادى ترومان بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين سنة 1943، واعترف بإقامته، كما أشرت، بعد 11 دقيقة من إعلان بن غوريون، وخاطب الكثير من دول العالم، ومنها الاتحاد السوفييتي لتسهيل هجرة اليهود إلى البلاد الفلسطينية ورعايتهم، والتكفل بالإنفاق عليهم من ساعة خروجهم من بلدانهم وحتى الوصول إلى الأراضي الفلسطينية، والدعم الأميركي للكيان الإسرائيلي لم يتوقف عند مرحلة التأسيس وحسب، بل استمر بوتائر عالية جدًا منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا الراهن، وقد تعددت صور هذا الدعم وتنوعت من المال إلى السلاح إلى التعليم إلى التكنولوجيا إلى الزراعة إلى الصناعة، إلى البناء والعمران بوساطة شركات أميركية، ناهيك عن الدعم السياسي الذي تراوح ما بين التجاهل واللامبالاة وغض الطرف إلى اتخاذ عشرات القرارات التي لها علاقة بالفيتو، وعشرات القرارات التي حولت القوات الأميركية بالدفاع عن الكيانية الإسرائيلية.

وكل هذا، من عام 1948، وحتى هذه الساعة، لم يتم خفية أو بعيدًا عن العيون، وإنما حدث وبدا جهارًا نهارًا أمام كل من يمتلك عينين رائيتين، ومن دون أي مساءلة مثل: لماذا هي تفعل ذلك، ومن دون حياء أو خجل، ومن دون تحسب أي ملاومة من أي جهة في العالم، ومن دون أي التفاتة أو اعتبار لأي قانون أو عرف دولي.

نعم، أميركا وفي كل تصرفاتها، لا يهمها إطلاقًا إن وصفت أفعالها وممارساتها بالظلم والانحياز، أو إن وصفت بأنها شيطانية أو دموية، أو أنها منافية للشرعية الدولية، إنها تفعل ما تفعله، وتمارس ما تمارسه بسلطان القوة، ها هي الآن ترى ما يمارسه الإسرائيليون منذ أحد عشر شهرًا سالفات وحتى هذه الساعة في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، ولا تفعل شيئًا، وكلها ممارسات فاشية عنصرية دموية قبيحة، لم تعرفها البشرية على هذا النحو والصورة إلا في أوقات موت الضمير الإنساني، وغياب الأخلاقيات، والقوانين، ووصول المرضى والمجرمين إلى أعلى المناصب ليتصرفوا بوحشية شائنة تخلف التشريد والتهجير والقتل والإبادة والتطهير العرقي واحتلال أراضي الآخرين ونهب خيرات بلادهم، وما حدث في البلقان، وأفغانستان، والصومال، والعراق وما يحدث في بلادنا الفلسطينية العزيزة واضح وجلي أمام كل بصير، بل أمام كل أعور وأعمى وأطرش، ها هي بوارج أميركا، وحاملات الطائرات، والطائرات، والصواريخ الذكية المستعدة للإطلاق، وها هم الجنود الأميركان وبعشرات الألوف، يتواجدون ليشكلوا سورًا أو سياجًا محيطًا حاميًا للكيانية الإسرائيلية، أما الأقمار الصناعية الأميركية، والغربية أيضًا، فهي تستخدم لوجستيًا وتكنولوجيًا من أجل تحديد الأهداف والبؤر التي يظن ظنًا بأنها تهدد أمن الكيان الإسرائيلي، مهما صغر شأنها، وتؤيد، أعني أميركا، الإسرائيلي حين يدمر، كل ما يريد تدميره، بالشراسة الكاملة، ولنا أن نتصور بأن الأقمار الصناعية تعطي معلومات للإسرائيليين عن فلسطيني يركب دراجة هوائية، أو دراجة نارية أو سيارة من أجل أن تلاحقه طائرة إسرائيلية، مسيرة أو طائرة نفاثة لا فرق، كي يقتل، لمجرد الشك أو الظن بأنه ربما يشكل خطرًا على الأمن الإسرائيلي.

أميركا تنفق الأموال الطائلة، وهي تحرك أساطيلها الجوية والبحرية، وتصدر الأوامر لقيادات دول قريبة وبعيدة من البلاد الفلسطينية كي لا يتحركوا، كي لا يتكلموا، كي لا ينزعجوا مما تقترفه الكيانية الإسرائيلية من مجازر في البلدات والمدن والمخيمات الفلسطينية، وألا يستغربوا أو يستهجنوا ما تمارسه من تشريد وتهجير وعزل واعتقال وحصار وقتل للأطفال والنساء، وتجريف للبيوت والطرقات والمشافي والمدارس، لأن كل هذا ضروري وجوهري لإدامة أمن الكيانية الإسرائيلية.

وأميركا التي تتباهى بالقوانين، ورجال القانون فيها، وبالديموقراطية والحرية والسلم، والرأي والرأي الآخر، والآداب، والفنون، وتقدم جامعاتها. لا تتعامل بـ (ألفباء) هذه القوانين والأعراف، والقيم من أجل عدم المساس بالمخاطر الإسرائيلي، لا بل توظف كل المقولات الدينية، وهي معتقدات، من أجل إعلاء شأن الكيانية الإسرائيلية، لقد حولوا كل ما هو ديني إلى تاريخ كيما تصير إسرائيل حالاً واقعية من دون الالتفات إلى مصير 15 مليون فلسطيني يعيشون في الوطن الفلسطيني وفي الشتات، بل من دون السؤال، إن كان الطعام والماء والدواء والهواء يصلون إلى قطاع غزة أو الضفة الفلسطينية التي تعيش بلداتها ومدنها ومخيماتها الحصار تلو الحصار وبالقسوة الراعبة.

ترى، ونحن في خضم هذه الحرب المجنونة وويلاتها، ما الذي سيغير حال سياسات الولايات المتحدة الأميركية، ومعظم الدول الغربية، وكيف لنا أن نقنع أميركا والغرب عمومًا، بأن ما يشاهدونه في بلادنا الفلسطينية العزيزة منذ 76 سنة، وإلى الآن، ليس فيلما سينمائيًا، ولا هو مسرحية هزلية، ولا هو بالسيرك؟ وكيف لنا أن نقول لأميركا، والغرب أيضًا، بأننا نولد في الناصرة، وطبريا، وأريحا، وحيفا، وعكا، ويافا، وشعفاط، وجنين، والعروب، والفارعة، ونور شمس. من أجل أن نعرف التاريخ والجغرافية والقيم والكتب والموسيقى والورد والعمران والحياة الجميلة، لا من أجل أن يقتلنا الإسرائيلي بالسلاح الأميركي والغربي ببراعة، وبعين حديدية اسمها الأقمار الصناعية.