في الانتفاضة الكبرى 1987 / 1993 وقف أحد المقربين من رئيس وزراء السويد الاسبق، أولف بالمه المغدور، الذي اغتيل عام 1986 اندريش فيرم، وسفير السويد في الأمم المتحدة، قال في كلمة شهيرة له متسائلاً "إلى متى سنبقى محكومين بقانونين دوليًا، واحد لنا جميعًا (للعالم) وواحد لإسرائيل؟"، وكانت مقولة تختزل عنوان أساس من معادلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتكشف عن هوة سحيقة بين دول العالم أجمع ودولة إسرائيل اللقيطة، التي استباحت القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي على مدار عقود الصراع الطويلة. 


ولكسر القاعدة  المشوهة للمعايير المزدوجة والكيل بمكيالين آنفة الذكر بادرت  في 29 كانون اول / ديسمبر 2023 دولة جنوب إفريقيا في رفع دعوى قضائية لمحكمة العدل الدولية من 84 صفحة و240 نقطة بينت فيها فظائع حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب العربي الفلسطيني عمومًا وفي قطاع غزة خصوصًا، وطالبت فيها مع الدول الداعمة لها أولاً بوقف الحرب الإسرائيلية فورًا، ثانيًا محاكمة إسرائيل كدولة على جرائم حرب الإبادة، التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني مقرونة ومدعمة بالوثائق والشواهد على قتل الأطفال والنساء، ونجم عنها حتى رفعها الدعوى إلى استشهاد ما يزيد على 22 ألف شهيد وأكثر من 55 ألف جريح وتدمير مئات الآلاف من الوحدات السكنية والمستشفيات والمراكز الصحية والمدارس وأماكن العبادة والمؤسسات الحكومية والمتاحف والمراكز الثقافية والبنى التحتية والعقاب الجماعي والحصار الشامل والتهجير القسري للمواطنين الفلسطينيين، ثالثًا الزام مجلس الأمن للاستجابة لنداء الغالبية الساحقة من الدول والرأي العام العالمي المنادي بوقف حرب الأرض المحروقة فورًا، وانسحاب إسرائيل من القطاع، وإدخال المساعدات الإنسانية المختلفة ووقف العقاب الجماعي وعودة السكان الفلسطينيين لبيوتهم ومدنهم، ومنع التهجير القسري. 


وهذه هي المرة الأولى التي تتجرأ دولة في العالم لمطالبة محكمة العدل الدولية بمحاكمة إسرائيل الاستعمارية، وهي خطوة فريدة من نوعها، وسابقة هامة في سياق ملاحقة الدولة المارقة والخارجة على القانون. وأهمية أن تبادر جنوب افريقيا بالتحديد على رفع الدعوى القضائية، تكمن في أنها الدولة التي عانت ودفعت ثمنًا غاليًا من دوماء أبناء شعبها، ومن التمييز العنصري الوحشي على مدار عقود من الصراع مع الاستعماريين البيض، وتمكنت بفضل دعم القوى المناصرة للسلام في العالم من الانتصار على غلاة الاستعماريين البيض، وانتزعت استقلالها بقيادة الزعيم الأفريقي الجنوبي الراحل، نلسون مانديلا، الذي خرج من السجن بعد 27 عامًا لتولي الرئاسة في بلده. 


ولم يكن بإمكان دولة فلسطين العضو المراقب في الأمم المتحدة من تقديم الدعوى القضائية، لأنها دولة مراقب. وللأسف لم تبادر أي من الدول الشقيقة لرفع دعوى لملاحقة إسرائيل الفاشية لجملة من العوامل، ولكن انضمت لها المملكة الأردنية الهاشمية وقبلها دولة جيبوتي وغيرها من الدول والمنظمات المجتمعية والمحامين من تشيلي ودول أوروبا والعالم وحتى نواب ودعاة سلام إسرائيليين لقناعتهم بأهمية القضية المرفوعة، وضرورتها لمحاكمة الدولة العبرية على جرائم حرب الإبادة وانتهاكاتها الفاضحة وغير المسبوقة في التاريخ على الشعب العربي الفلسطيني الأعزل، والذي يدافع منذ ثمانية عقود تقريبا عن حقه في الحرية والاستقلال وتقرير المصير والعودة للاجئين الذين تم طردهم في نكبة العام 1948 وعام النكسة 1967. 


ويفترض ان تبدأ مناقشة الدعوى الجنوب افريقية اليوم الخميس الموافق 11وغدا الجمعة 12 كانون ثان / يناير الحالي، وارسلت الدولة القائمة بالحرب والاستعمار الاجلائي الاحلالي إسرائيل من يدافع عن حربها الوحشية على الشعب الفلسطيني. ووفق ما اعتقد، ان مرافعة جنوب افريقيا، التي لم تعتمد على ما قاله وصرح به الفلسطينيون، وإنما استندت إلى مواقف ممثلي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذات الصلة والوثائق والشواهد الحية من عمليات الإبادة الهمجية ضد الأطفال والنساء والشيوخ، وإلى ما صرح به واعلنه القادة الإسرائيليون منذ بداية الحرب حتى تقديم الدعوى للمحكمة، وهو ما يعطيها مصداقية عالية أمام قضاة المحكمة الأممية، ويعري ويفضح أكاذيب الدولة اللقيطة المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب الرأسمالي لمواصلة حرب الإبادة بذريعة "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس". 


لكن الاسئلة التي تطرح نفسها، هل قضاة محكمة العدل الدولية، التي ترأسهم قاضية أميركية يرتقون لمستوى المسؤولية الأخلاقية والقانونية، وتمثل دورهم في انصاف الشعب الفلسطيني؟ وهل تحقق بعض العدالة الإنسانية المستندة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي؟ وإذا تمثلت دورها الإنساني والحقوقي القانوني هل يستجيب مجلس الامن الدولي لقرارها؟ وغيرها من الأسئلة ذات الصلة هل ستجد طريقها للترجمة والتنفيذ على أرض الواقع؟ علينا انتظار ما تحمله وقائع ونتائج المحاكمة الأممية لإسرائيل في المستقبل المنظور.