شهدت الحركة الأسيرة الفلسطينية بطولات فردية وجماعية يشهد لها العالم، وليس أبناء الشعب العربي الفلسطيني فقط.
ولكن هناك حالات ومحطات هامة وآسرة في نضال عمالقة أسرى الحرب والحرية، دونها جنرالات الدفاع عن المشروع الوطني في الخندق الأمامي بأمعائهم الخاوية، ومواجهاتهم الباسلة مع سلطات السجون الإجرامية على الجبهتين السياسية القانونية والمطلبية، حيث الاشتباك اليومي واللحظي بين جموع الأسرى وجلادي الاستعمار الصهيوني الإجلائي الإحلالي، وتفرد العديد منهم بتسطير صفحات عظيمة في الذود عن حقوق شعبهم العامة وحقوقهم اليومية في معركة متواصلة لم تتوقف يوما منذ وجدت إسرائيل اللقيطة على أرض فلسطين العربية على انقاض نكبة الشعب صاحب الأرض والتاريخ والموروث الحضاري في عام 1948، وفي أعقاب هزيمة حزيران / يونيو 1967، حيث باتت فلسطين كلها من بحرها إلى نهرها تحت استعمار إسرائيل بدعم كامل من قبل دول الغرب الرأسمالي بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، ونتاج تخاذل العديد من الأنظمة العربية.
من بين رموز الحركة الأسيرة البطلة سطع اسم الكابتن طيار كفاح حطاب، ابن مدينة طولكرم الشامخة، الذي سطر ملحمة فريدة في الدفاع عن حقوقه وحقوق إخوانه ورفاقه أسرى الحرب، الذين تُصر حكومات إسرائيل المتعاقبة بوصفهم "الأسرى الأمنيين"، وترفض إطلاق التسمية القانونية عليهم وفقا لمعاهدة جنيف الرابعة، باعتبارهم "أسرى حرب". لأنها لا تريد الإقرار بوجود وحق الشعب العربي الفلسطيني في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، وتعمل على طمس حقوقه المختلفة، وقضيته الوطنية التحررية بكل الوسائل، فلجأت الدولة العبرية الطارئة على نفي وتشويه مكانة الأسرى، كأسرى حرب، ما دفع القائد الفولاذي الكابتن كفاح، لأن يمتشق سلاح الإضراب دفاعا عن مكانته ومكانة رفاق الدرب، وخاض ما يقارب من الخمسين إضرابا منذ بدأ خطوته التمردية الشجاعة في 17 نيسان / أبريل 2011 وحتى إصدار كتابه "كفاح كفاح – أسير حرب في سجون الاحتلال الصهيوني" في طبعته الأولى عام 2023 عن اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين.
وحتى لا أخوض في تفاصيل الكتاب الممتد على مساحة 422 صفحة من القطع الكبير، الذي دونه صاحب الرؤية والرواية المتميزة الكابتن طيار كفاح، فإني سأكثف قراءة الكتاب بإبراز أهم النقاط التي سجلتها تجربته الفذة، منها الآتي:
أولا أهمية اختيار اللحظة المناسبة لانطلاق تمرده البطولي، بعد دراسة وتمحيص في العديد من العوامل المحيطة به، وعلى إثر اقتناعه بصعوبة تحشيد الحركة الأسيرة خلف قراره الوطني والإنساني الجريء؛ ثانيا البراعة في تحديد الهدف القانوني والسياسي الناظم لإضرابه المتقطع والمتواصل على مدار السنوات الماضية؛ ثالثا قناعته بأهمية سلاح الإضراب في تحقيق الهدف الأسمى، وهو إصراره على انتزاع اعتراف سلطات السجون بكونه أسير حرب، لا سجينا أمنيا، وكمناضل من أجل الحرية لذاته وللحركة الأسيرة ولشعبه الفلسطيني، وبالتالي رفض لباس السجن الإسرائيلي (الشاباص) ورفض الوقوف للعدد، ورفض الوقوف لضباط وجنود السجون الإسرائيلية المختلفة، التي جالها مرغما، وأحيانا طوعا لأسباب خاصة بزيارة الأهل؛ رابعا أثر الانقلاب الحمساوي عام 2007 على وحدة الحركة الأسيرة، وانعكاسه السلبي على معارك أسرى الحرب جميعا؛ خامسا تحدي إرادة الجلاد الصهيوني، وعدم الاستسلام أمام إجراءاته القمعية وبطشه الوحشي؛ سادسا التضحية الفردية والحمعية، فالقرار كان هو صاحبه، وحملت أعباءه أسرته والشعب معه، الذين وقفوا خلفه ببطولة نادرة. رغم مرارة الانقطاع عن العائلة الصغيرة لسنوات، وعدم تمكنه من رؤية أبنائه وزوجته وشقيقاته وخاصة أخته أم ياسر توأمه الروحي؛ سابعا فضح وتعرية أكاذيب سلطات السجون المختلفة، وعدم الوفاء بالتعهدات العديدة التي قطعوها له مرات عدة، وكانت الأكثر إيلاما رفضه مرغما رؤية ابنته الوحيد حلا، عندما حاولت قيادة السجن لي ذراعه وابتزازه الإنساني والعاطفي تجاه ابنته، التي عانت حتى وصلت السجن، عندما حاولوا إرغامه على لباس (الشاباص)، فرفض بقوة وشجاعة ابتزازهم؛ ثامنا خشية سلطات السجون من انتقال عدوى تمرد كفاح على قرارات سلطات السجون للأسرى في السجون المختلفة، لذا كانت تلجأ للسماح له لزيارة أسرته المتباعدة في سجن مستشفى الرملة أو سجون أخرى غير سجن "هداريم" الذي أمضى فيه أطول فترة ممكنة.
تاسعا أهمية عملية التكافل الأسري والشعبي والإعلامي مع أهداف أسير الحرب الكابتن كفاح في تعزيز ودعم نضاله البطولي، والذي منحه جرعات متجددة من الإرادة والعزيمة لمواصلة التحدي الخلاق والريادي؛ عاشرا اكتشافه لقدرات جديدة وهامة في ذاته، ما عمق لديه روح الصبر وتحمل تبعات المواجهة، وعزز لديه كسر شوكة الجلاد؛ حادي عشر اكتشافه نقاط ضعف سلطات السجون، وإسقاط والانتصار على أساليبهم الرخيصة أثناء إضراباته المتواصلة باستخدامهم سياسة العصا والجزرة والإغراءات باحضار الطعام لإضعاف مقاومته؛ ثاني عشر اعتزازه بتضامن وتفهم القطاع الأوسع من رفاق الدرب في الحركة الأسيرة، واستياؤه من أولئك الذين حاولوا الانتقاص من تجربته الفولاذية، والتواطؤ مع إدارات السجون.
تجربة الكابتن كفاح نجحت رغما عن أنف المحتلين الصهاينة، وتمكن من انتزاع العديد من الأهداف. إلا أن هدفه الأسمى بالاعتراف به وبأسرى الحرية، كأسرى حرب ما زالت تحتاج إلى وحدة الحركة الأسيرة كلها لفرضها على المستعمرين. وهنا تكمن أهمية الوحدة في خوض المعارك الهامة والأساسية السياسية والقانونية، وحتى القضايا المطلبية.
وهناك الدروس والعبر الكثيرة التي تضمنتها تجربة الكابتن القائد كفاح الحطاب، وأعتقد أنها تجربة تستحق التدريس في المدارس الثانوية ومساقات الجامعات الفلسطينية لتأهيل الشباب الفلسطيني في مواجهة سلطات السجون وحكومات الاستعمار الإسرائيلي المتعاقبة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها