ما زال الشعب صامدًا، ويقاوم، وقضيته حية، ونصفه على أرض فلسطين، وقضيته عادلة ومتفوقة أخلاقيًا، والرأي العام العربي والإسلامي والإنساني يتحرك نحو دعمها المتزايد، بينما تشهد المنطقة والإقليم والعالم تحولات وتغييرات متسارعة، يمكن ألا تكون على حساب القضية الفلسطينية، بل لصالحها، إذا أحسن الفلسطينيون التصرف.

وإذا أردنا المزيد من التفاصيل والجوانب المهمة، يحدد المشروع الوطني الحقوق والأهداف الأساسية، وكيف يمكن تحقيقها، وكذلك أسس الشراكة والتحالف والقيم والمبادئ، وأهمية الاحتكام إلى الشعب واعتماد الديمقراطية التوافقية بين مكونات الشعب، فالمشروع الوطني الفلسطيني بعد 76 عامًا على النكبة غامض ومختلف عليه، بين من لا يزال يتشبث بـ "حل الدولتين"، ومن يقفز إلى حل "الدولة الواحدة"، أو يكتفي بالتمسك بالمقاومة وهدف التحرير وكأن هذا يكفي، وأنها مسألة اختيارات مريحة لفظية فقط، وبين من يقول إن المرحلة ليست مرحلة حلول.

المرحلة ليست مرحلة حلول، ولكن.

نعم، هذا صحيح، فالمرحلة مرحلة صمود، والحفاظ على القضية، وعلى تواجد الشعب على أرضه وإحباط المشاريع المعادية، ولكن هذا وحده قول لا معنى له من دون مشروع وطني، ونقطة البدء هي الانطلاق من وحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية، وبعد ذلك التعامل مع موازين القوى والخصائص التي تميز التجمعات المختلفة، ووضع أهداف عامة وأهداف لكل تجمع، فلا يمكن اختصار الموقف بأن حل الدولتين مات، وأن المقاومة هي البديل أو لا بديل من حل الدولتين إلا حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة أو الانتقال إلى المطالبة بالحقوق، بينما جاري تطبيق حل الدولة الواحدة الاستعمارية العنصرية، على قدم وساق، باستخدام القوة وفرض الحقائق على الأرض وعبر أنظمة وقوانين خاصة بكل تجمع فلسطيني (القدس، 48، الضفة، القطاع)؛ لتجنب قيام دولة واحدة ثنائية القومية أو دولة لكل مواطنيها، أو ما شابه ذلك وخالفه من حلول.

بعد تحديد الحقوق والأهداف وما يوحد الشعب الفلسطيني، يتم تحديد المهمات والبرامج الخاصة بكل تجمع استنادًا إلى موازين القوى، وما يمكن تحقيقه؛ حيث يكون النضال متعدد الأشكال، وبما يناسب كل تجمع، وتكون نضالات التجمعات المختلفة روافد تصب في نهر واحد يقود إلى انتصارات محدودة متنوعة على طريق تحقيق الانتصار العظيم.

بعد ذلك، أعتقد أن الانقسام حصيلة عوامل داخلية خارجية ذاتية وموضوعية، أهمها الاحتلال الذي مهد الطريق لحدوث الانقسام، ويسعى جاهدًا إلى بقائه وتعميقه وتعميمه للقضاء على القضية الفلسطينية بكل أبعادها، بما فيها إقامة دولة فلسطينية يعارض قيامها الكيان المحتل؛ لأنه يعرف أن قيامها إذا كانت حرة وذات سيادة وعاصمتها القدس هي بداية النهاية للمشروع الصهيوني برمته. لذلك، لا يمكن إقامة مثل هذه الدولة عن طريق المفاوضات وتقديم التنازلات التي تقود إلى الاستسلام والحل الإسرائيلي الذي لا يتسع للدولة التي يريدها الشعب الفلسطيني ولا لأي حق من الحقوق الفلسطينية، وإنما عبر المقاومة وتغيير موازين القوى.

عندما لم تنشغل الفصائل والقيادات بإحياء المشروع الوطني، انشغلت بالمصالح الفئوية والفردية، والاعتراف بالأدوار والحصول على النفوذ والمكاسب والوظائف، ونزلت عن الجبل بينما الحرب مستمرة والصراع لا يزال في ذروته. وعندما تتم بلورة المشروع الوطني سيكون قادرًا على توحيد الشعب الذي سيفرض إرادته على القوى، أما عندما يتم الانشغال بالقضايا الصغيرة والمصالح الفردية فيضيع كل شيء.

نعم، هناك أمل؛ لأن هناك شعبًا حيًا، وهو سيفرض إرادته في النهاية على الجميع، وهذا الأمل يعزز بأن المشروع الصهيوني مسدود الأفق، ومأزوم، وأنه سيقدم على الضم والتهجير، وتغيير مكانة الأقصى، وشن العدوان العسكري بكل أشكاله، وسيحاول من وراء ستار أن يفرض خليفة أو خلفاء للرئيس الحالي، بما يضمن استمرار قيام السلطة بدورها الحالي، وربما أسوأ.

إنّ كل ما سبق (الضم، والتهجير، والتدخل لفرض خليفة أو خلفاء ... إلخ)، على خطورته، يمكن أن يوفر فرصة للنهوض القادم لا محالة، وفي سياق النهوض سيتم بناء الحركة الوطنية مجددًا، وبناء الوحدة الوطنية الديمقراطية التي لا تلغي التعددية والتنافس، وإنما تتم في إطار الوحدة.

وحتى يحدث النهوض نحن بحاجة إلى فكرة وطنية جامعة، وإلى رؤية شاملة، وحلول متكاملة مترابطة، وقيادة واحدة ومؤسسة وكيان وطني يوحد الشعب ويمثله بشكل حقيقي وديمقراطي، فلا يكفي القول إن الانتخابات هي الحل. فالانتخابات غير ممكنة في الظرف الحالي، في ظل الانقسام والاحتلال، ووجود سلطتين، وفي ظل وجود قوى متحكمة لا تريد انتخابات. كما أن الاحتلال وأطرافًا عربية وإقليمية ودولية، لا يريدون الانتخابات، وإذا جرت من دون تغيير في الوضع القائم فلن تكون حرة ونزيهة وتحترم نتائجها.

ولا يمكن أن يكون الحل تشكيل حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني؛ لأن هناك عقبة الالتزامات الدولية الظالمة، وأنها صيغة وحدها لا تقبل بها "حماس"؛ لأنها لا تريد أن تنهي سيطرتها على السلطة من دون أن تحصل على شيء.

وكذلك لا يمكن أن يكون مدخل الحل المنظمة أو تشكيل قيادة انتقالية بالتعيين فقط؛ لأن هذا ترفضه "فتح"؛ كونه يجعل "حماس" شريكًا في المنظمة والقيادة، بينما تحتفظ بسيطرتها على القطاع.

أما حل الرزمة الشاملة الذي يحفظ مصالح الناس وحقوقهم المدنية والوطنية، فهو يحقق مصلحة الوطن، ويحفظ مصالح كل الأطراف، ويمكن أن يحرك الناس لفرضه.

نعم، هذا صعب جدًا، ولكنه على صعوبته أسهل الحلول، وهل هناك شيء عظيم يكون من السهل تحقيقه. إن كلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس الجبناء.