في عام ١٩٥٥ تمّ إنشاءُ الحلف المركزيّ والذي عُرفَ لاحقًا بِاسم حلف بغداد، وكان يضمُّ كلاً من العراقِ وإيرانَ وباكستانَ وتركيا إضافةً إلى بريطانيا، وكان هذا الحلفُ فكرةً قامت أمريكا بطرحِها ووكّلت بريطانيا بقيادتِها بينما ظلّت هي شكليًّا خارجَ إطارِها. وقد أقيم هذا الحلفُ بحجّةِ التصدّي للمدّ الشيوعي السوفياتيِّ، بينما كان عمليًّا يهدفُ إلى إعادةِ بناءِ القواعدِ العسكريّةِ في المنطقةِ بعد التغيّرات التي جرت في بلدانٍ محوريةٍ وخاصّةً في مصرَ بعدَ ثورةِ ٢٣ يوليو ١٩٥٢. وقد سقط هذا الحلفُ عمليًّا في ١٤ تموز/يوليو عام ١٩٥٨ عندما تمّت الإطاحةُ بالنّظامِ الملكيِّ في العراقِ. وكردٍّ مباشرٍ على ذلك قام الجيشُ الأمريكيُّ في اليومِ التالي لثورةِ تموز في العراقِ بما سمّي بعمليةِ الخفّاشِ الأزرقِ، وهو الاسمُ الذي أُطلِقَ على التدخّلِ العسكريِّ المباشرِ في لبنانَ لإنقاذِ حُكم الرئيس كميل شمعون. لقد شكّلَ هذا التدخّلُ بدايةَ الوجودِ العسكريِّ الأمريكيِّ في المنطقةِ كبديلٍ للوجود البريطانيّ الذي لم يعد قادرًا على حمايةِ المصالحِ الغربيّةِ بعد انهيارِ الإمبراطوريّةِ البريطانيةِ تحتَ ضغطِ ثوراتِ شعوبِ مستعمراتِها وانتزاعِها لاستقلالِها.
لم تنقطع المحاولاتُ الأمريكيّةُ للسيطرةِ على المحاورِ الاستراتيجيّةِ في الوطنِ العربيِّ، وقد اعتمدت أمريكا على الدّورِ الإسرائيليِّ المباشرِ في ضربِ وإضعافِ القوى العربيةِ التي كانت تشكّلُ تهديدًا للسياسةِ الأمريكية في المنطقةِ، ولا حاجةَ إلى التذكيرِ بالعدوانِ الثلاثيِّ ضدّ مصر عام ١٩٥٦ أو بعدوان ٥ حزيران ١٩٦٧، ثُمَّ إغراقِ لبنانَ ومعهُ منظمةُ التحريرِ الفلسطينيّةُ في دوّامةِ الحربِ الأهليةِ وصولاً إلى حصارِ بيروت عام ١٩٨٢ وخروجِ قوّات الثورةِ الفلسطينيّةِ إلى المنافي البعيدة. ورغمَ تنامي القوّةِ التي تمتلكُها دولةُ الاحتلالِ الاستيطانيِّ الإسرائيليِّ فإنَّها لم تعد قادرةً على القيامِ بدور اليدِ الطّولى للسياسةِ الأمريكيّةِ، وهذا ما أجبرَ الولاياتِ المتّحدةَ على اللجوءِ إلى الغزو والاحتلالِ المباشرِ كما هو الحالُ في العراقِ وفي جزءٍ من سوريا، علاوةً على القواعدِ الأمريكيّةِ المنتشرةِ في دولٍ عديدةٍ بناءً على اتفاقيّاتٍ ثنائيّةٍ ليس للجانبِ العربيِّ أدنى مصلحةٍ بوجودِها.
قد يتساءلُ القارئُ: وما دخلُ كلِّ ما سبقَ ببناءٍ مستشفى في غزّة؟
لم تستطعْ أمريكا بجبروتِها أن تفرضَ على الشعبِ الفلسطينيِّ وقيادتِهِ رؤيَتَها العبثيّةَ لحلّ الصراعِ الفلسطينيِّ-الإسرائيليِّ، تلكَ الرؤيةَ التي حملت اسمَ "صفقةِ القرنِ"، فقد ظلَّ الموقفُ الفلسطينيُّ محافظًا على صلابتِهِ رغمَ الضغوطِ التي تعرّض لها شعبُنا سواءً من الإدارةِ الأمريكيّةِ أو من حكومةِ الاحتلال. ورغمَ ثباتِ الموقفِ الفلسطينيِّ وتماسُكِهِ فإنَّ القيادةَ الفلسطينيّةَ كانت وما زالت تدركُ أنّ الخطرّ الرئيسَ الذي يهدِّدُ وحدةَ شعبنِا هو حالةُ الانقسامِ الناتجِ عن انقلابِ "حماس" على الشرعيّةِ الوطنيّةِ وفصلُ غزّةَ عن الوطنِ. لقد أثبتت الأحداثُ المتتاليةُ أنَّ قيادةَ "حماس" لم تعدْ معنيّةً بالمشروعِ الوطنيِّ الذي يُجمعُ عليهِ شعبُنا، وأصبحَ هدفُها الوحيدُ هو تثبيتُ سيطرتِها على غزّةَ وضمانُ استمرارِ حكمِها بغضِّ النّظرِ عن الثمنِ الباهظِ الذي يدفعُهُ الغزيّونَ وشعبُنا كلُّهُ وقضيّتُنا الوطنيّةُ نتيجةً لاستمرارِ الانقسامِ وآثارِ وتبعاتِ الانقلاب. لقد أصبحت "حماس" أسيرةً لمعادلةٍ إقليميّةٍ غارقةٍ في تنفيذِ "صفقةِ القرن" والتي تحصرُ مفهومَ "الدّولةِ الفلسطينيّةِ" في كيانٍ هزيلٍ في غزّةَ يرضي غرورَ "حماس" ويضمنُ استمرارَ إمارتِها الرّبّانيّةِ.
المستشفى العسكريُّ الأمريكيُّ هو أحد مظاهرِ مشاركةِ "حماس" في صفقةِ القرنِ، وهو استمرارٌ لممارساتِها بإخراجِ غزّةَ من إطارِها الوطنيِّ وإخضاعِ جزءٍ من أرضِها للسيطرةِ والسيادةِ الأمريكيّة. وأمامَ حالةٍ كهذهِ يظهرُ كذبُ ونفاقُ قيادةِ "حماس" وآلتِها التضليليّةِ التي تدّعي الحرصَ على مصالحِ شعبِنا والتمسّكَ بحقوقِه. كما يظهرُ جليًّا أنَّ ما سُمّيت زورًا بمسيراتِ العودةِ لم تكنْ أكثرَ من "بازار" للمقايضةِ على شروطٍ أفضلَ لتثبيتِ الانقلابِ على حسابِ ضحايا تلك المسيراتِ من الشهداءِ والجرحى والمعاقين. أمّا الجانبُ الأمريكيُّ فهو بإنشائه هذا المستشفى إنَّما يقومُ بعملٍ عدوانيٍّ مباشرٍ ضدَّ شعبِنا وسيادتِهِ على أرضهِ، حتّى لو كانت تلك الأرضُ تحتَ الاحتلالِ، وهذا يجعلُ من ذلك المستشفى قاعدةً عسكريةً أو مستوطنةً أخرى تضافُ إلى قائمةِ المستوطناتِ الاستعماريّةِ التي تلتهمُ أرضَ فلسطينَ بطولِها وعرضِها. ولا بدَّ لكافّةِ القوى الوطنيّةِ التي ما زالَ لديها وهمٌ بحقيقةِ أهدافِ قيادةِ "حماس" أن تبادِرَ إلى القيامِ بتحرّكٍ على الأرضِ يمنعُ بناءَ هذهِ القاعدةِ الأمريكيّةِ فوقَ جزءٍ عزيزٍ من أرضِ الوطن، وهذا يتطلّبُ العملَ لعقدِ لقاءٍ وطنيٍّ فوريٍّ يتبنّى حراكًا جماهيريًّا للتصدّي لعبثِ "حماس" بالسيادةِ الوطنيّةِ، فلم يعدْ مقبولاً بعدَ اليومِ الوقوفُ في منتصفِ الطريقِ والاكتفاءُ بالمناداةِ بالمصالحةِ وتحميلُ "الطرفينِ" مسؤوليةَ تعطيلِها، لأنّ "حماس" ببساطةٍ أخرجت نفسَها من دائرةِ العملِ الوطنيِّ وانحازت إلى المخطّطِ الأمريكيِّ الهادفِ إلى تصفيةِ القضيّةِ الفلسطينيّةِ وتثبيتِ دعائمِ المشروعِ الصهيونيِّ.
*المستشفى الأمريكيُّ في غزةَ هو قاعدةٌ عسكريّةٌ عدوانيّةٌ تنتهكُ السّيادةَ الوطنيّةَ الفلسطينيّةَ وتعيدُ المستوطناتِ الاستعماريّةَ إلى غزّةَ، وهي تنفيذٌ فعليٌّ لأهمِّ مرتكزاتِ صفقةِ القرنِ التي تسعى لإقامةِ كيانٍ هزيلٍ في غزّةَ على حسابِ المشروعِ الوطنيِّ الفلسطينيّ.
١-١٢-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها