لن يصير المواطن ديمقراطيًا ما لم يكن في الأصل وطنيًا، فالديمقراطية كمنهج حياة سياسية ليست ضرورة في غاية الأهمية وحسب لاستمرار الكيان الوطني، بل معيار معاصر على مستوى الانتماء الوطني في تفكير وعمل وسلوك وإبداع المواطن، لكن هل يمكن القول إن المواطن لن يكون وطنيًا ما لم يكن ديمقراطيًا في الأصل؟! أم أن هذا السؤال يتجاوز حقيقة إنسانية وهي أن الوطنية ولدت مع البشرية قبل تطورها ووصولها إلى مرحلة الإنسانية، رغم محاولات إنسانية راقية أنتجتها حضارات الأمم المتعاقبة في كثير من أوطان الشعوب والأمم  في العالم... لكن ما علاقة الديمقراطية بالوطنية أي (الانتماء الوطني) وهل يمكن فصل المبدأ عن المنهج؟! 

لا تحتاج شجرة الانتماء الوطني (لهرمونات نمو) أو تنظيرات (أسمدة) لتقوى وتصبح جاهزة لمواجهة أعاصير الغزاة والجفاف، ذلك أن جذورها طيبة بطبيعتها، ولا يمكن للطفيليات التسلق على جذعها، أما فروعها وأغصانها فمزدهرة بثمار بنكهة وطعم خاص مميزين وقد تكون متفردة في النوع، لكنها لا قدرة لها على العيش إلا في بستان الإنسانية، حيث تنمو أشجار وطنية سريعًا وتزدهر في أجواء الديمقراطية، ما يعني أن شجرة الانتماء الوطني ستحاكي حتما المتغيرات الإيجابية المنظورة والملموسة، وتحديدًا إذا كانت مناطق الجذور قريبة من بعضها، كاقتراب فلسطين باعتبارها قلب الوطن العربي من الوطن العربي من أوروبا حيث نشأت وترعرعت فكرة الديمقراطية منذ نشوء الحضارة الإغريقية في اليونان. 

يوجد في العالم حاليًا ثلاثة نماذج، منها نموذجان يأخذان شكل دولة ويستخدمان الديمقراطية وفق منظور عنصري: الأول منظومة الاحتلال الصهيوني العنصري (إسرائيل)، والثاني صانعتها الولايات المتحدة الأميركية، أما الأحزاب المتطرفة المستخدمة للدين والديمقراطية معًا فهي النموذج الثالث، النموذجان يخالفان الشروط الموضوعية للديمقراطية وكذلك الانتماء الوطني، ذلك أن منظومة الاحتلال والفصل العنصري (إسرائيل) التي أغرقت العالم بادعاء أنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط لا يملك يهودها الصهاينة الغزاة جذورا تاريخية وطنية في فلسطين ولا في المنطقة  العربية، وقد أثبتوا بجرائمهم ومجازرهم التي ارتكبوها وراء ستار الاستعمار البريطاني، أنهم غزاة يشبهون الأوروبيين الذين غزوا القارة الأميركية وأمعنوا في إبادة شعب الهنود الحمر، كما أن رؤساء إسرائيل منذ إنشائها كانوا وما زالوا ألد أعداء الديمقراطية التي تعني السلام، والحقوق، والعدل، والكرامة الإنسانية من دون تمييز، فكيف ونحن أمام غزاة احتلوا أرض الشعب الفلسطيني، وعملوا على تهجيره وتشريده، وارتكبوا مجازر دموية وما زالوا، وأجبروا آلاف المواطنين على مغادرة أراضيهم وبيوتهم تحت تهديد السلاح وأنشأوا مستوطنات ليهود جلبوهم من جهات الأرض الأربع، لا رابط وطنيًا بينهم ولا ثقافيًا، حتى الرابط الديني مشكوك فيه بنسبة عالية –حسب اعترافات مؤسساتهم اليهودية الدينية- وصنفت دولتهم دولة فصل عنصري بقرار من منظمة العدل الدولية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وبذلك أعادت الصهيونية العنصرية على أرض فلسطين سيرة الولايات المتحدة الأميركية التي قامت على أنقاض شعوب القارة أميركا الشمالية، مع فارق جوهري أن المشروع الصهيوني فشل في اقتلاع جذورنا الوطنية من أرض فلسطين، بينما نجح  أو ما زال يبدو كذلك حتى الآن في أميركا.  

النموذج الثالث هو (الأحزاب الإسلاموية) مولود تزاوج الغزوتين الاستعماريتين لفلسطين وأميركا الشمالية، حيث صنع هؤلاء لنشر بكتيريا سامة تؤدي لجفاف جذور الوطنية والانتماء عند الشعب المستهدف، ووأد أي أفكار للنمو والتطور في مهدها، ليس هذا وحسب بل دربوا على استخدام (المنشطات) التي تمكنهم من الاستحواذ على الحكم عبر استخدام الانتخابات – وهي أحد أساليب تجسيد الديمقراطية كحصان طروادة، لاختراق بنية أي دولة وإضعافها لا بقائها خاضعة لذات القوى التي صنعتهم، فالديمقراطية بالنسبة إليهم وسيلة نقل معاصرة ولكن باتجاه واحد، يركبونها بعد ضمان الدول التي أنشأتهم أن وصولهم لسدة الحكم أكثر من مضمون!... وبعد تعهد ألا يحاسبهم أحد إذا اتخذوا الإرهاب سبيلاً ووسيلة لتثبيت أركانهم، ونعتقد أن انقلاب فرع الإخوان المسلمين في فلسطين (حماس) في غزة عام 2007 دليل ماثل حتى اللحظة.. فالأحزاب المستخدمة للدين في ساحتنا الفلسطينية وعند الغزاة المستوطنين لديهما العداء المطلق للوطنية الفلسطينية كقاسم مشترك، لأنه نقيض كليهما، فالصهيوني الإرهابي لا وطن له ويسعى للسيطرة على أرض فلسطين، فيما مستخدم الدين عندنا لا يعترف بالوطنية  أصلا، ولا يرى فلسطين وطنا، وإنما كعود مسواك كما قال شيخهم محمود الزهار ذات مرة!!. 

يمضي الوطني قدمًا، واثقا في تعزيز منهج الديمقراطية في كل مساراتها، ومنها الانتخابات،  والنجاح عنده ليس في كسب الأصوات وحسب، بل في قدرته على النجاح في امتحاناته الصعبة، النجاح في تقديم الوطنية الفلسطينية كشخصية إنسانية معاصرة مبدعة، شخصية جديرة بالحرية والاستقلال والسيادة، ومشاركة العالم في استعادة الدور الحضاري للمنطقة انطلاقًا من أرض مهد الحضارات فلسطين.

 

المصدر: الحياة الجديدة