بينما قرارات ترامب تضع الصين والولايات المتحدة على شفا حرب وإثارة بؤر توتر جديدة وحروب متوقعة خاصةً مع إيران، إذ فشلت المفاوضات حول الملف النووي في ظروف التحولات الدولية. إلى جانب ما يجري في لحظة مشبعة بالنار والدم والمآسي وحجم الآلام في فلسطين.

يُعاد طرح مبادرات لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، في مقدمتها المبادرة المصرية الجديدة، التي تُصاغ على عَجل بين ضغوط سياسية دولية وإقليمية، وواقع ميداني يحاول الاحتلال من خلاله فرض شروط استسلام، لا مجرد تهدئة أو وقفًا لإطلاق النار لمدة محددة رغم الأزمة التي يواجهها نتنياهو من داخل المجتمع الإسرائيلي بمختلف قطاعاته السياسية والأمنية.

إن المبادرة المصرية ورغم استنادها إلى مصادر الحرص القومي في جوهرها، إلا أنها تحمل ملامح "هدنة مشروطة" أكثر مما تمثل حلاً سياسياً أو انسحابًا حقيقيًا لقوات الاحتلال حتى من غزة. ورغم الحديث عن ثلاث مراحل تبدأ بوقف إطلاق نار والانسحاب من المناطق السكنية بالقطاع، فإن القراءة المتأنية للواقع، ولتجاربنا السابقة نحن كفلسطينيين، تكشف أننا أمام محاولة جديدة لإدارة الأزمة، لا حلّها، والفرق جوهري هنا.

وقف إطلاق النار ضرورة إنسانية عاجلة، لا خلاف على أولويته الملحة، لكن السؤال الجوهري هو، بأي شروط؟ وبأي ثمن سياسي؟ وهل يمكن وقف النار مع بقاء الاحتلال داخل غزة أو على أبوابها، ومع استمرار الحصار، وتفويض لجنة مدنية مشروطة بإدارة القطاع تحت أعين الاحتلال وأقرانه وبضمانات غير فلسطينية؟.

إن ما يُطرح تحت مسمى "لجنة الإسناد المجتمعي" لإدارة غزة، لا يمكن فصله عن مخرجات هذه المبادرة، ولا عن محاولات ترسيم شكل غزة القادم وفق مقاييس أمنية إسرائيلية. فهل ستكون اللجنة، إن نشأت، خطوة نحو توحيد الصف الوطني وبناء مرجعية ميدانية ذات تمثيل حقيقي، أم بوابة لإنتاج إدارة وظيفية مؤقتة تخدم أهدافًا غير وطنية، وتكرّس الانقسام تحت مظلة الحاجة الإنسانية؟.

إنني أرى بأن أي محاولة لخلق واقع إداري جديد في غزة لا يستند إلى توافق وطني شامل، ولا ينبثق من رؤية موحدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا وصاحبة الولاية السياسية والقانونية، رغم حاجتها العاجلة لتطوير وتوسيع أدائها وقاعدتها كجبهة وطنية واسعة، هو قابل للتحول إلى أداة تطويع سياسية، مهما كانت نوايا القائمين عليه.

إسرائيل اليوم تحاول الخروج من مأزقها عبر معادلة لا نصر عسكري ولكن مكاسب سياسية وأمنية. وهي بذلك تراهن على تهدئة تحفظ ماء وجهها، وتعيد تنظيم غزة من الداخل بما يضمن إضعاف المقاومة واستمرار السيطرة غير المباشرة.

الولايات المتحدة، عبر دعمها للمبادرة، لا تسعى لإنصاف شعبنا الفلسطيني، بل لحماية أمن إسرائيل و"استقرار المنطقة" تحت سقف المصالح الاستراتيجية الأميركية في إطار رؤية "الشرق الأوسط الجديد". والحديث المتجدد هنا عن "صفقة جديدة" بصيغة ترامب أو غيره، ما هو إلا محاولة لإعادة إنتاج الفشل بوجه جديد، وتجاوز أصل وجذور المشكلة المتمثلة أصلاً باستمرار الاحتلال الاستيطاني الاحلالي لكافة الأراضي الفلسطينية.

ما نحتاجه ليس مبادرة تداوي النزيف فقط على أهمية وقفه طبعاً، بل رؤية وطنية تعيد تعريف المعركة مع أطماع الاحتلال وسياساته بالإقتلاع والتهجير، وتربط بين غزة والضفة والقُدس والشتات في مشروع وطني تحرري واحد، يستند إلى إرادة سياسية تمتلك القرار الوطني المستقل والرؤية والبرنامج الواضح، ووحدة سياسية وميدانية، وإرادة شعبية حقيقية تقف خلف هذا المشروع.

باعتقادي، فإن أي تهدئة، ما لم تتضمن انسحاباً كاملاً من غزة، ورفعاً للحصار، وضمانًا لحرية الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، فهي تهدئة هشة، قد تتحول إلى فخ سياسي. وأن أي لجنة لا تُشكَل بإرادة وطنية فلسطينية جامعة، ستكون إدارة بلا سيادة، وأداة تجميد للوضع القائم، لا أداة لتغيير الواقع.

اليوم، نُستدعى نحن الفلسطينيين جميعاً لموقف وطني تحرري واقعي وعقلاني واضح يتمثل، بأن لا تهدئة تُشرعن الاحتلال، ولا إدارة دون تمثيل وطني شرعي، ولا مشروع وطني يُبنى تحت حراب المُحتل الغاصب.

المبادرة المصرية إن لم تُخضَع للتوافق الفلسطيني الوطني، وترتبط بالانسحاب الكامل وتفكيك الاستيطان ونظام الأبرتهايد، وتحقيق العدالة للضحايا ولشعبنا الصامد وفق رؤية وبرنامج زمني واضح بالتعاون مع أطراف المبادرة الدولية لتحقيق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، لن تكون حلاً مؤقتًا لأزمة الاحتلال، ولا لحُريتنا نحن.