الدول كالأفراد، عندما تتصرف بعصبية، وتفقد عقلها واتزانها، فهذا دليل ضعف وهشاشة الفكرة التي أقامت نفسها على أساسها. إسرائيل في الآونة الأخيرة تتصرف بعصبية وعدم اتزان، ولمن يرقب أفعالها يلاحظ حالة الإفلاس التي وصلت إليها، وبلغت ذروة ذلك عندما شاهدها العالم وهي تعتدي بشكل جنوني ووحشي على جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة في القدس، ومن ثم كررت حماقتها وجنونها وهمجيتها عندما اعتدت مرة أخرى ليلة أمس الأول على جنازة الشهيد المقدسي وليد الشريف.

صحيح أن فكرة تأسيس "الدولة اليهودية" قد تكونت في رحم الحداثة الأوروبية، وصحيح أن إسرائيل دولة حداثوية، منظمة وتمتلك عقلاً علميًا واضحًا للعيان، ولكن ألم تصل الحداثة الأوروبية إلى مأزقها مع نزعتها الإمبريالية، نزعة الاستعمار والهيمنة،  وكانت سببا لظهور الفاشية والنازية والعنصرية في النصف الأول من القرن العشرين، ألم تأخذ الحداثة الأوروبية البشرية بحماقتها وأنانيتها إلى حربين عالميتين مدمرتين حصدتا أكثر من 100 مليون إنسان. المشكلة التي بدأت تنكشف للعالم أكثر فأكثر، هي في أن مأزق حداثوية إسرائيل وما تدعيه من ديمقراطية هو في جوهر الفكرة الصهيونية التي قامت على أساسها، وهي فكرة عنصرية فاشية تقوم على الاستعمار والاحتلال والدول التي تقوم انطلاقًا من آيديولوجيا كهذه، فإنها تحمل أسباب هزيمتها وربما فنائها بنفسها.

في الأسابيع الأخيرة خرجت أصوات من داخل النخبة السياسية الإسرائيلية، ومن بينهم إيهود باراك، الذي احتل أعلى المناصب في الجيش والدولة، تتحدث علانية عن قرب انهيار وفناء دولة إسرائيل، وهم باختصار يعلمون قبل غيرهم أن مأزق إسرائيل إنما يكمن بالفكرة العنصرية النافية للآخر التي تأسست على أساسها. ما من أحد لا يدرك قدرات إسرائيل الأمنية والعسكرية، وما من أحد لا يلاحظ تطورها على صعيد التكنولوجيا العسكرية، ولكن هذه الدولة المتعاظمة عسكريًا هي هشة إلى درجة لم تستطع تحمل مرور جنازة شيرين، وجنازة وليد الشريف في القدس، فلو كانت إسرائيل دولة واثقة من نفسها ومن أصالة فكرة وجودها، لما فقدت عقلها واتزانها وتصرفت بعصبية أقل ما يقال عنها إنها غبية.

صديق لي، عندما شاهد ما جرى في القدس أثناء جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، سواء مشهد الآلاف من المشيعين الفلسطينيين وفرض إرادتهم هناك، ومشهد الاعتداء الحاقد من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية على الجنازة، تحمس كثيرًا وقال لي: أصبحت متأكدًا اليوم أكثر من أي وقت مضى أننا سنهزم إسرائيل في زماننا نحن وليس في زمن أبنائنا، وأراه محقًا، خصوصًا إذا ما  نظرنا للأمور من زاوية أن إسرائيل هي في واقع الأمر قد هزمت أصلاً في معركة الإرادات، فهي لم تنجح، رغم جبروتها العسكري ورغم تفوقها الحداثوي، في كسر إرادة الشعب الفلسطيني، بل إن إسرائيل تبدو هشة أمام مجموعة من الأطفال الفلسطينيين الذين ينظرون إلى الجنود الإسرائيليين وآلياتهم العسكرية بازدراء.

لا أحد عاقل في إسرائيل اليوم لا يرى أن الفكرة الصهيونية، والقوة العسكرية الإسرائيلية، لم تفلح وبعد 74 سنة من النكبة في القضاء على الحقيقة الفلسطينية، بل إن هذه الحقيقة، هي اليوم أقوى وأكثر ظهورا لدى الرأي العالم العالمي، وأن حقيقة إسرائيل هي التي بدأت تتآكل في نظر أصحابها ونظر العالم، لأنها حقيقة عنصرية بالأساس.

لقد فقدت إسرائيل فرصة السلام التي منحها إياها الشعب الفلسطيني، وواصلت عماها الصهيوني وهروبها إلى الأمام، واعتقدت بغباء كل العنصريين، أنها قادرة على السيطرة على الشعب الفلسطيني، والاستمرار باحتلالها له، واليوم هي لا تصمد أمام جنازة، ولا تتحمل مرورها في شوارع القدس، فإذا شاهد العالم انهيار روايتها في القدس، ومن هنا منبع عصبية إسرائيل، فإن الدولة تصبح غير قادرة على تبرير وجودها أو أنها ستجبر على تغيير جوهرها العنصري وحينها لن تعود إسرائيل كما هي عليه اليوم من غباء.

ما يحتاجه الشعب الفلسطيني هو أن يستمر بصموده على أرضه، ولكن صمود مع حالة أكثر تنظيمًا ووحدة. في جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة ظهر كم هو الشعب الفلسطيني موحدًا، ولكن هذه الوحدة الشعبية تحتاج إلى حالة منظمة، وهي مهمة تقع على عاتق النخب الفلسطينية.

 

المصدر: الحياة الجديدة