في يوم رمضاني عادي يسقط الأسير سامر مطر مغمى عليه، وعند نقله لعيادة السجن تتم إعادته للقسم وهو فاقد الذاكرة دون تقديم أي نوع من العلاج له وبقي لأكثر من اثنتي عشرة ساعة فاقدا لذاكرته ومن لطف المولى عز وجل أن عادت له الذاكرة بعد تدخل طبيب ما يسمى طبيب السجن، وعندما ذهبنا للاطمئنان عليه تكشف لي كم من المصائب التي يمكن أن تتكاتف على جسد نحيل لم يعد يقوى على تحملها، فهذا الأسير المعتقل منذ خمسة عشر عاما حكم عليه بواحد وعشرين عامًا وخلال هذه المسيرة الطويلة أصيب بمرض السرطان واستؤصل جزء من أمعائه وهو يعاني لغاية اليوم من آثار هذا المرض وأثناء اعتقاله الطويل هذا مرت أسرته بهزات جسيمة حيث توفيت ابنته الأولى وما هي إلا أشهر معدودة حتى توفيت زوجته وابنته الثانية ولم يمض كثير من الوقت حتى توفي والده بالسرطان، ولكي تكتمل حكاية الألم وحلقاتها والجرح المفتوح توفي عمه على إثر خلاف عائلي، هذه أحداث مركزة قد تحدث مع أحدنا في عقود طويلة ولكنها في حالة هذا الأسير حدثت في فترة وجيزة لتحول حياة الاعتقال الثقيل بحد ذاته إلى جحيم متواصل .
من الاستنزاف والقهر والموت المتواصل، كل هذه الأحداث الأليمة والموجعة لم تكن سببًا مقنعًا للاحتلال وإدارة سجونه بأن يعطي لهذا الأسير أقل حقوقه المنصوص عليها في كل الشرائع الدولية والإنسانية وهي العلاج الطبي أو الاتصال الهاتفي للاطمئنان على من تبقى من أسرته، وما زالت حكاية الألم مستمرة وما زالت الجريمة متواصلة.
وفي مصادفة أخرى وكأن الأحداث تختار أوقات ظهورها وفي نفس اللحظة التي كنا نتحدث عن حالة سامر وأثناء مسيرنا في ساحة المعتقل، يحدثني الأسير أيمن جعار الذي يمضي حكما مؤبدًا منذ سبعة عشر عامًا عن والدته التي عشقها فهو يتحدث عنها بزهو ويقول إنه تركها قوية متماسكة ولم يلحظ في يوم من الأيام أي ضعف يبدو عليها، وبعد سنوات من مسيرة اعتقاله بدأت الأمراض تنهش جسدها إلى أن أصابها مرض السكري وبرغم ذلك كانت تصر على الحضور لزيارته باستمرار وكانت ترفض أن يمر يوم زيارته دون أن تزوره هي بالذات حتى أنه لم يلحظ أي تراجع على وضعها الصحي. وبعد سنوات طويلة من زيارته وفي كل مرة كانت تتحدث معه بشكل طبيعي ودون أن تخبره بما تعاني أثناء زيارتها له، حتى تم إخباره بالخطأ من قبل أهله بأن أمه تعاني منذ زمن بعيد فقدان البصر، وحينما أتت والدته كعادتها لزيارته سألها عن حالها وصحتها فأجابته بشكل طبيعي أنها بخير وبصحة وعافية وأمورها جيدة، فكرر سؤاله عليها إلا أنها أجابت بنفس الجواب فغير سؤاله ليسألها إن كانت ترى أي تغير في شكله فقالت كعادتها إنك شخصية وملابسك جميلة، فقال لها ما لونها فأخبرته بأنها ملابس السجن وعندما سألها إذا ما كان يلبس لونا آخر تحت القميص فأخبرته بأن لونها أزرق حينها اكتشف أنها كانت بالفعل فاقدة للبصر وهي تخفي خبر فقدان البصر عن ابنها المعتقل منذ سنوات لكي لا تتأثر نفسيته داخل السجن ولكي لا يحزن على وضعها، حيث كانت تصر على إخباره بكل شيء جيد كي تحافظ على مشاعره وإن كان على حساب صحتها وما هي إلا أيام معدودات حتى فارقت والدته التي أحبت التراب الذي يسير عليه الحياة، وتلقى خبر وفاتها بصدمة بالغة ما زال يعاني من آثارها.
هذه نماذج أخرى من حياة المعتقلين الذين تنتشر أوجاعهم وآهاتهم في أرجاء السجون وداخل زنازين الاحتلال وهي لم تجد للآن الفرصة الحقيقية للخروج من هذه القبور المعتمة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها