منذ انطلاقتها فجر الثالث والعشرين من تموز يوليو 1952، على يد تنظيم مصري خالص مئة في المئة بقيادة جمال عبد الناصر، أعطت تلك الثورة العظيمة المتجددة وعدها الشاسع بأنها عنوان وجوهر التغيير الشامل في هذه المنطقة العجيبة من العالم، وهي المنطقة العربية الممتدة بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، التي كانت المهبط الأول للبشارات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية، التي مهما اتهمت بأن قرارها الحاسم كان في حد السيف فقد أثبتت بالدليل المضني أن النموذج الإنساني أكثر مضاء من حد السيف، وأن هذه المنطقة العربية يكمن سرها وقدرها في أنها كل واحد، وحين تتمكن القوى المعادية من تمزيقها فهذا سيكون مقدمة لأزمنة من التمزيق يعاني منها الجميع.

إن ثورة الثالث والعشرين من يوليو تموز، أضافت في زمن قياسي في كل هذه المنطقة العربية الشديدة التعقيد بصفتها مختزن الطوائف والخلافات والأحقاد وطريق التجارة الدولية وأكنف المصالح، فما هي إلا هنيهات في عمر الزمن تحت إضاءات الثورة المصرية في العراق ثم في اليمن و قبلها في الجزائر ثم توالت قافلة الضوء لتشمل الشرق الأوسط كله وشمال أفريقيا، بل أكثر من ذلك فإن جمال عبد الناصر نفسه زعيم الثورة الخالد قال في واحد من أعمق كتبه عن الثورة المصرية، إن هذه الثورة قد انطلقت فعلياً من بلدة الفالوجة الفلسطينية، التي كان هو شخصياً محاصراً فيها مع كتيبته التي كان رئيس أركانها يوم كان إسمه البكباشي جمال عبد الناصر، لآن بلدة "الفالوجة" الفلسطينية قالت في ذلك الوقت شيئاً خارقاً يستعصي على الفهم، القرية يهاجمها الجيش الإسرائيلي في العام 1948 أو يحتلها، ويمارس فيها وحولها أبشع عمليات القتل والاستباحة، و يحاصرها إلى حد الخنق والكتيبة في داخلها محاصرة، فماذا فعلت قرية الفالوجة بهذه الروح التي لا يضاهيها شيء في الأرض، الكتيبة المصرية المعززة كلها تأكل من يد نساء الفالوجة اللواتي يأتيهن القمح تهريباً من "دواسين الليل" من دورا في الخليل والبلدات المحيطة بها إلى البلدات المحيطة بالفالوجة، يأتي القمح فتحوله نساء الفالوجة إلى دقيق عبر الرحى اليدوية، يا رب ما أعظم معجزاتك حين تصنع قوتك التي لا تعادلها قوة في سواعد نسوة محاصرات، وفي قلوب رجال يطاردهم الموت المباح، كان ذلك شعاعاً واحداً من أشعة البطولة والمعجزة، و بهذا الشعاع واصل عبد الناصر ورجال ثورة يوليو معاركهم في محاربة الإقطاع و شهواته المفجوعة، ومعركة بناء السد العالي التي كان أطرافها يعتقدون أن الثورة المصرية لن تجرؤ على المواجهة، وثبت بعد ذلك أن ثورة يوليو لم تعد فقط ثورة مصرية أو عربية بل هي في قائمة الثورات التي غيرت وجه العالم.

طرحت في هذا المقال ذكرى بلدة الفالوجة الفلسطينية، حيث كان الفعل الإنساني أعظم من حسابات الطغاة الظالمين، وهذا ما نثبته ونطمئن إليه في معركة الانتصار لثوابتنا ضد إسرائيل ومن خلقوا إسرائيل ويحاولون من خلالها كسر العدالة الإلهية، لا.. لن تكسر رايتنا، لن يختنق صوتنا، وإن الجعبة دائماً مليئة بالسهام التي لن يوقفها الظالمون.

إلى ذكرى الثورة المصرية كل التحية والامتنان، وأثق كل الثقة أن مصر بشعبها العظيم وجيشها الخارق قادرة أن تحطم دائماً كل سهام الكيد، وأن تدافع عن وجود ومصالح وثوابت هذه الأمة ضد كل الطامعين كباراً كانوا أم صغاراً، وتحيا مصر.