تقرير: جميل ضبابات

وقعت هذه القصة في الأيام الأولى من شهر تموز عام 1855.

حتى اليوم، ينظر الى رحلة الفتاة الإنجليزية ماري اليزا روجرز كواحدة من أكثر الرحلات الى فلسطين شهرة، ليست لأنها بدأت بحادثة عن الحجر الصحي لمنع تفشي وباء الكوليرا، لكن لانها نقلت الينا أحوال الشعب الفلسطيني في ذلك الوقت.

كان ساحل المتوسط الممتد من مصر الى بلاد الشام، في ذلك الوقت مضطربا بسبب مخاوف من تفشي وباء الكوليرا، ومثلما هي السفن السياحية اليوم في عصر كورونا، كانت مكانا محتملا لنقل العدوى، كانت السفن التي يتنقل فيها المسافرون من والى فلسطين، مكانا مشكوكا فيه لنقل الامراض المعدية عبر المنافذ البحرية الى الشعب الفلسطيني والرعايا الأجانب هناك.

دايموند برنسيس او اميرة الماس هي السفينة الأشهر في هذا الوقت بسبب تفشي وباء كورونا فيها، والذي نقله بعض ركابها الى عدد من الدول. في ذلك الوقت كانت سفن "الراين" و"تايج" ضمن مجموعة السفن التي استقلتها روجرز عبر موانئ بولون الفرنسي والاسنكدرية وحتى وصولا الى ميناء يافا الذي شهد قصة الحجر الصحي الأشهر في التاريخ الحديث.

ماري إليزا روجرز هي شقيقة الدبلوماسي الانجليزي إدوارد توماس روجرز الذي عمل دبلوماسيا وقنصلا في القدس ودمشق والقاهرة وحيفا، وفي وقت لاحق دونت تلك الفتاة يومياتها في كتاب عنونته "الحياة في بيوت فلسطين: رحلات ماري اليزا روجرز في فلسطين وداخليتها (1855-1859).."، ونُشر عام 1862، لكنه انتظر نحو قرن ونصف كيف يترجم الى العربية، بعد ان تولى الفلسطيني جمال أبو غيداء تلك المهمة وفيه وردت قصة الحجر الصحي.

"كثيرا ما كنت أتساءل عن المشاعر التي ستنتابني عندما تطأ قدمي تراب فلسطين، ولكن الاحداث التي مرت بنا لدى وصلونا تكفلت بالقضاء على رومانسية الموقف"، تقول روجرز.

لكن ما هي تلك الاحداث في ذلك الوقت الذي وصفه القنصل البريطاني في القدس في ذلك الوقت بـ"ازمنة مثيرة"؟

انها قطعا احداث تبدأ بقصة الحجر الصحي في يافا!.

تقول روجرز "نسيت او كدت انسى بانني في الأرض المقدسة، بينما ازداد شعوري بأنني سجينة في واقع الامر.(...) كان مركز الحجر الصحي مكتملا على غير العادة بسبب انتشار وباء الكوليرا في مصر".

عرف الفلسطينيون إجراءات الحجر الصحي بمفهومه العلمي في هذا الوقت وربما قبل ذلك الوقت الذي كانت تخضع فيه بلاد الشام لحكم الدولة العثمانية، وطبقت السلطات الحاكمة الإجراءات على جميع من يدخل ارض فلسطين منعا لانتشار الوباء، وانتشرت مراكز الحجر في اكثر من مدينة.

وهكذا بدأت القصة مع الرعايا الانجليز بمن فيهن ماري وشقيقها الدبلوماسي!.

فقد نقلت الفتاة الإنجليزية تجربتها في فلسطين ابتداء من عرض بحر يافا بمشاهدات لم تخل احيانا من الرومانسية حتى حين كان القارب يوشك على الارتطام بالحزام الصخري الممتد على مقربة من الشاطئ.

"في هذه الاثناء اقترب منا قارب الحجر الصحي، الذي كان يقل رجل أمن وموظفا من موظفي الحجر الصحي في المدينة (..)، واجهنا صعوبة في الانتقال الى قارب الحجر الصحي الصغير المخصص لنقلنا الى الشاطئ".

مثلما تروي الفتاة، فإن الانتقال من السفينة الى قارب الحجر الصحي لم يكن سهلا بسبب اضطراب المياه وهبوب الرياح.

كانت اجراءات الحجر الصحي في ذلك الوقت، ليست مجرد عنوان طبي يحتاج الى تفسيرات الأطباء، انما اجراء يطوقه الحذر الشديد من كل ناحية.

"كان البحارة العرب على متن القارب المخصص لقطر قارب الحجر الصحي يرفضون حتى لمسه، حتى لو اقتضت الضرورة ذلك، خوفا من احتجازهم في المحجر الصحي كاجراء احترازي لمنع الانتشار المحتمل للعدوى".

في عصر كورونا، أيضا، يعتبر اللمس واحدا من أسباب انتقال العدوى في العالم، لذلك دخل حتى اليوم نحو نصف العالم في الحجر الاجباري.

نظرة الى ذلك الماضي، الذي لم يكن فيه النظام الصحي في فلسطين، قد وصل الى الحدود الدنيا من المأسسة الحاضرة اليوم، تشي بالتزام كل من يخالط الوافدين الى فلسطين باجراءات حذرة يطالب بتطبيقها العالم كله اليوم.

وهو ما يعرف في عصر التدوين الطبي الحديث بـ"التبعاد الاجتماعي".

كانت رحلة وصول الفتاة الإنجليزية الى الشاطئ عبر قارب الحجر كما تصفها يائسة وخطرة "شارفنا على السقوط في مياه البحر".

ان ما يجري اليوم من دفع للناس للدخول في حجر صحي يبعد تفشي الكورونا عبر تقنيات الجيل الخامس من شبكات الاتصالات، كان يجري قبل عشرات السنين بادوات استخدمها ذاتها الانسان الأول مثل القوارب الخشبية المتداعية.

"التزمت الصمت وانتابني الخوف طوال الوقت الذي استغرقناه لعبور الممر المائي".

واذا امكن التصرف باختصار رحلة الفتاة الإنجليزية بين القارب وبين الشاطئ حيث يقع المحجر الصحي، يمكن القول إنها واحدة من اكثر قصص الحجر الصحي المروية في الكتب اثارة في التاريخ الحديث.

بعد تلك الرحلة المثيرة!: انه المحجر الان، وهو ليس اقل اثارة من الرحلة ذاتها.

"الغرفة الوحيدة الشاغرة كانت ذات باب يفتح على ساحة صغيرة وتم تخصيصها لنا (..) مساحتها 12 قدما مربعا (..) تطل على البحر الأزرق والشاطئ الصخري والسور الشمالي ليافا. كانت مجموعات من الصبية ترتع وتلعب تحت الأشجار القريبة منا، بحيث عوضت حسنات المشهد خارج الغرفة الكآبة التي كانت طاغية في داخلها". تقول.

ما اقرب مشهد اليوم الى الماضي!

فقد بث فيديو عبر شبكة الانترنت قبل أيام مشهدا لشاب يخضع نفسه للحجر وهو يشاهد صبية يلعبون تحت الأشجار.

سيفكر الصحفيون والمحررون في وسائل الاعلام كثيرا بمضامين الاخبار وسيتساءلون: هل يعيد الانترنت اليوم انتاج مشهد الماضي المكتوب لكن بصورة مباشرة؟

جاء الجواب على لسان ماري وهي تسرد قصتها مع مراحل الحجر .

"بعد وقت قصير، جاء السيد جراهام، صديقنا العزيز من القدس لزيارتنا، حيث وقف خارج نافذتنا بوجود الحارس الذي وقف هناك لمراقبتنا، فلو حدث ان لامست أيدينا ايدي الضيف الزائر، فسيتعيّن عليه الانضمام الينا في الحجر المفروض علينا".

انها المصافحة القاتلة التي يتجنبها سكان العالم هذه الأيام.

فأكف البشر هذه الأيام، تحمل خير السلامة وشر الفيروس.

وجاء الجواب مرة أخرى في قصة أخرى!، "عندما اضطررنا لارسال من يشتري لنا الطعام من السوق، وجب علينا ان نضع النقود في كوب مليء بالماء لمنع انتشار العدوى".

انها النقود التي يحتمل انها احد نواقل فيروس كورونا هذا العصر.

مضت اول ليلة في محجر شاطئ مدينة يافا، مليئة بالاحداث التفصيلية، التي امتدت من وصف مغيب الشمس مرورا بالنواحي الانثروبوجلية في المدينة، حتى لمعان نجوم سماء فلسطين، ومذاق الملح الخشن لاذع المذاق. الا ان ماري تذكر أيضا، انه لم تكن هناك ضمن طاقم العاملين في مركز الحجر الصحي نساء، ولم تكن هناك نساء غيرها ضمن المحتجزين في المحجر.

صباح اليوم التالي جاء الفرج.

"في اليوم التالي جاء من يبغلنا بأن طبيب مركز الحجر الصحي، وهو فرنسي، سيقوم بزيارتنا بغرض الاطمئنان على صحتنا، ووصل بعد ذلك بوقت قصير بمعية ثلاثة من موظفيه الذين وقفوا اما غرفتنا وهو يتجنبون أي اتصال جسدي بنا او بأي من النزلاء الاخرين الموجودين في المركز (...)، ثم انصرف بعد ان حيانا بانحناءة وهو يقبل يده ويردد "سأتشرف بمنحكم شهادة خلو من الامراض المعدية غدا"، قالت.

لقد كان حجرا سهلا وبسيطا مقارنة بحجر هذه الأيام!

"اطلق سراحنا في الساعة السابعة والنصف من صباح الثالث من تموز، فصعدنا السلالم الخلفية لمركز الحجر الصحي بسعادة، واجتزنا المقبرة القريبة المكتظة بالقبور".

كانت تلك قصة محجر صحي في فلسطين، التي تخضع للحجر المنزلي بكاملها بعد نحو 165 عاما