لم يكن هذا القرار السياسي الذي أعلنه سيادة الرئيس، وهو يجتمع مع القيادة الفلسطينية مجرد رد فعل، وإنّما هو قرار أنضجته المعطيات اليومية، منذ سنوات طويلة من القهر، والمعاناة، وإدارة الظهر الإسرائيلي المشبع بالعنصرية الصهيونية، المتجسدة في مواقف ترامب المدمِّرة للمنطقة، ولمصير الشعب الفلسطيني ومستقبل التعايش بين دول المنطقة، ونسف التفاهمات والاتفاقات التي كانت قائمةً.

منذ تسلُّم ترامب رئاسة الولايات المتحدة، وتجسيد التحالف الصهيوني مع نتنياهو، الذي يعبِّر بسلوكه عن أسوأ حالات وتصورات اليمين الإسرائيلي، وعدوانه اليومي متواصل على كافة تفاصيل حياة، ومكونات المجتمع الفلسطيني.

ما أكده سيادة الرئيس في قراره هو وضع النقاط على الحروف الفلسطينية المشحونة بالكبرياء الوطني. وبالتالي فإنَّ هذا القرار المعتَّق والناضج هو محصَّن، والأهم فإنَّ الجهود الداخلية مكدَّسة للاتفاق على آليات التنفيذ.

والاتفاق على آليات التنفيذ يعني أن نكون في مستوى التحديات التي لها أول وليس لها آخر، والتي بدورها طالت أيضًا كل تفاصيل حياتنا، وواقعنا الجغرافي، والاجتماعي، والامني، والإعلان الواضح والصَّارخ والمشحون بالتصميم، وإعداد العدة، والتأكيد على أننا دخلنا مرحلة الحسم الجدي في المواقف، وذلك من خلال قوله الذي لا رجعة عنه: يجب أن يقف شعبنا في وجه كل من يريد أن يعتدي علينا.. كفى كفى كفى. وبمعنى أوضح وصل السيل الزُّبى. والتعليمات الواضحة الملزمة للجميع وبدون تردد هي: "لن نخضع للإملاءات، ولا لفرض الأمر الواقع على الارض بالقوة الغاشمة".

إنَّ هذه الالتزامات الوطنية والثورية محصَّنة بمجموعة من المبادئ والقيم المؤصَّلة، التي يجب التسلُّح بها في هذه المعركة المصيرية، وهي معركة أن نكون، أو لا نكون: 

- "القدس ليست صفقة عقارية في شركة عقارات".

- "لن نستسلم، ولن نتعايش مع الاحتلال".

- "مهما طال الزمن أو قصر، سيندحر الاحتلال البغيض، وستستقل دولتنا العتيدة".

- ومن هذه القيم والمبادئ التي هي في صلب الموضوع:

"يدي ممدودة للمصالحة، وآن الاوان أن نكون أكثر جدية".

- وأما الصرخةُ المدوية في كل أرجاء المعمورة، والمنطلقة من أعماق وجراح ومأساة الشعب الفلسطيني، وهي تشكل صفعة عار على وجه الاحتلال الصهيوني، فهي قول الرئيس: "الأبارتهايد الذي انتهى منذ ثلاثين عامًا من كلّ العالم، ما زال هنا برعاية أميركية".

نحن اليوم ندخل مرحلة مهمة، وحاسمة، ومكلفة، وبالتالي فإنّنا كشعب وقيادة دخلنا مرحلة متقدمة في الصراع الميداني ضد الاحتلال، الذي قوَّض كافة الاتفاقات مع الجانب الفلسطيني، أي منظمة التحرير التي لم يعد أمامها إلَّا القرار الذي أعلن الرئيس محمود عبّاس، والذي لاقى الترحاب، مهما ستكون التحديات المستقبلية، إلّا أنَّ هناك تقديرات ومحطات جوهرية لا بد من أخذها بعين الاعتبار، ودراستها بعمق مع كل ما يحيط بها من احتمالات:

أولاً : إنَّ قرار سيادة الرئيس وفي هذه المرحلة بالذات، يستحق الاهتمام والتعاطي بعمق وشمولية، نظرًا للمخاطر التي تحدقُ بالتنفيذ العملي لهذا القرار الرئاسي الذي يحظى بالتأييد والتعاطف الجماهيري، كونه يُسهم في الخروج من المأزق الذي أسهم في تدمير الحقوق الفلسطينية.

ثانيًا: يجب أن لا نعتبر هذا القرار مفاجئًا لأنَّ القيادة ذكَّرت سابقًا بتنفيذ هذا القرار الذي تم اعتماده في المجلس المركزي 2015، وتم تأجيل التنفيذ إلى المجلس المركزي الأخير سنة 2018، وكانت اللجنة التنفيذية هي المعنية بالمتابعة الدقيقة والعملية، ولذلك فإنَّه لا خلاف على التنفيذ، وإنّما المطلوب وضع الآليات المطلوبة، والتي تضمن سلامة الموقف الفلسطيني في تعاطيه مع التعقيدات والمخاطر التي لا بدَّ منها.

ثالثًا: إنَّ القرار الذي أعلنه سيادة الرئيس بوقف العمل بالاتفاقات الموقَّعة مع الجانب الاسرائيلي يرتكز إلى مجموعة حقائق اعتمدت عليها اتفاقات أوسلو، وهي التي تمتد عمليًا من 1994 إلى 1999، أي خلال خمس سنوات يجب أن تنتهي الانسحابات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية، التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. ولكنَّ تسلُّم الليكود قيادة الكيان الصهيوني بدلاً من حزب العمل، وقتل إسحق رابين الذي وقَّع على اتفاق أوسلو مع قيادة المنظمة، غيَّر مجرى اتفاق أوسلو.

وعندما تعمَّدت القيادة الاسرائيلية نسف كافة تفاصيل اتفاق أوسلو، وتحطيم الحلم الفلسطيني، وتكريس الحلم الصهيوني كاملاً على الأرض الفلسطينية (الدولة القومية اليهودية)، وإغراق الأراضي الفلسطينية بما فيها منطقة القدس بالمستوطنات، وتهويد المقدسات الإسلامية، عندها لم يعد أمام الرئيس محمود عبّاس سوى خيار واحد بمستوى التطورات الحاصلة والمدمِّرة وهي وقف العمل بالاتفاقات الموقَّعة مع الجانب الإسرائيلي.

رابعًا: إنَّ نجاح هذه الخطوة العملية والجريئة، رغم المخاطر القاتلة المحدقة بهذه المسيرة، متوقف على بناء الأعمدة الأساسية القادرة على النهوض بالأعباء المتوقعة، ولعلَّ أهم هذه الأعمدة:

أ‌- توفُّر الخطة الوطنية السياسية الكفيلة بإنجاح الخطوات الهادفة، دون السقوط في الهفوات، أو إحداث الارباكات والسقطات التي تضعف البنية الداخلية.

ب‌- من خلال الآليات التي سيتم وضعها، والالتزام بها، ينبغي الدراسة الواقعية، وإمكانية النجاح في قطع العلاقات مع الجانب الاسرائيلي، دون أن يتضرر الشعب الفلسطيني، وإنّما يعزز صموده وكفاحه اليومي، وإيجاد البدائل التي تحمي مسيرته الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني.

ج- إنَّ المرحلة القادمة تتطلب التوعية، والتثقيف، وتصليب الإرادات، وتعزيز المفاهيم الوطنية الاستراتيجية والمرحلية، لتوفير المتطلبات التي تعزز الأهداف.

لأنَّ نسبة الوعي المرتفعة، والصلابة المطلوبة هي السلاح الذي تستقوي به الكوادر القيادية، في مختلف المجالات، وفي معركة التحديات، وصراع الإرادات، لأنَّ التحولات المطروحة مصيرية وذات أهمية، فالمطلوب أن تتحوَّل السلطة الوطنية تدريجيًّا إلى إطار وطني آخر، قادر على تأدية الدور القيادي ميدانيًّا لأنَّ السلطة الوطنية ستعتبر في لحظة من اللحظات القادمة منتهية، لأنَّ اتفاق أوسلو بأكمله ينتهي مفعوله العام 1999 مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس، وقد تكون هناك حكومة تحت الاحتلال.

خامسًا: إنَّ العمود الأساس الذي تقوم عليه الخيمة الوطنية الفلسطينية، هو الوحدة الوطنية الفلسطينية، وذلك في إطار "م.ت.ف" الممثِّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. فهل هناك توافق بين مختلف الفصائل على توحيد الموقف الوطني, وبناء استراتيجية شاملة سياسيًّا ونضاليًّا وأمنيًّا وعسكريًّا؟ والتوافق الشامل هنا هو جوهر الموضوع الذي نتحدث عنه حاليًّا، لأنَّه هو الذي يتضمن تسلسل الخطوات المتعلقة بالسلطة، وانتهائها، واستبدالها، حتى لا تسيطر الإرباكات، والتقلبات غير المدروسة على الواقع الوطني الفلسطيني.

إنَّ المرحلة القادمة تتطلب من شعبنا، أن يتحول إلى جيش من المدافعين عن الحقوق، والأراضي الفلسطينية، وأن تنخرط جميع القوى السياسية، والنقابية، والاجتماعية في عملية صناعة مستقبل الشعب الفلسطيني، وتحرير الأرض، وبناء المجتمع الفلسطيني المتماسك على أرضية الكفاح من أجل الاستقلال والحرية، وإقامة الدولة المستقلة، وعاصمتها القدس.

الحاج رفعت شناعة                 

عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"     

ومسؤول الإعلام في الساحة اللبنانية       

2019/7/28