في الذكرى السابعة والستين لثورة الثالث والعشرين من يوليو تموز عام 1952، تتفتح الذاكرة العربية على تجارب خارقة من الأمل والألم، ومن أغلى ما قاله رمز تلك الثورة ومفجرها الأول الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" هو أهم ما كتب، وأهم وثائقها العميقة "إن الثورة المصرية، انطلقت من هنا، من فلسطين، من بلدة الفالوجة" التي حوصرت فيها الكتيبة المصرية التي كان يقودها العميد سيد طه، وكان المقدم جمال عبد الناصر رئيس أركانها في عام 1948، عام النكبة الفلسطينية.
ذلك أن فعل الحصار، والموقف المدهش غير العادي لأهالي بلدة الفالوجا الفلسطينية، شكلا أهم عنصرين كاشفين لما حدث بعد ذلك، ولما يحدث حتى الآن، العنصر الكاشف الأول، أن إسرائيل التي قامت بالعدوان والتواطؤ والتخاذل، لا تزال هي دولة الدور، دولة الاستخدام، دولة الاستهداف الأقصى لأمة كاملة في وجودها، وفي مصالحها، وفي مقوماتها، وأن ما يفرح به البعض حين يقومون بخياناتهم الصغيرة الكبيرة، ليست إلا عمليات متلاحقة من الهروب إلى الأوهام، وأنه دون أن تتحقق فلسطين بكل مفرداتها، فإن هذه الأمة ستظل مهددة بالفناء والتآكل.
وأكبر دليل على ذلك، أن المصطلحات التي سمعناها ونسمعها في سياق ورشة البحرين، وصفقة القرن، صفقة العار، هي المصطلحات نفسها التي سمعناها في عام 1929 عندما زار حاييم وايزمن المنطقة، والتقى هو ومندوبوه مع كل الإثنيات الدينية والقومية في المنطقة، ووعد بأن هذه الأرض ستصبح جنة بالمال اليهودي والرضا العربي، وكل يعلم أن الوهم ما زال مستمراً، وأن من يقعون ضحايا لهذا الوهم بإرادتهم ما زالوا يلعقون تافه الأوهام، بل إن هذه المصطلحات هي نفسها التي سمعناها في مؤتمر لندن 1905 – 1907، قبل سقوط الرجل المريض "الدولة العثمانية" وفي التقسيم لأملاكها عام 1916، تقسيم (سايكس/بيكو) ثم رأيناه عام 1917 في وعد بلفور المشؤوم، ونراه الآن ببشاعة أكبر في وعود ترامب الأكثر بشاعة وشؤماً.
أما العنصر الثاني الكاشف، فهو معجزة الفلسطينيين في بلدة الفالوجة حيث أخذوا على عاتقهم القيام بمسؤولياتهم لنجدة الكتيبة المحاصرة، نساء بلدة الفالوجة استطعن إطعام كتيبة معززة تعدادها أكثر من ألف جندي وضابط، أرغفة خبزهم كانت تأتي بفعل الرحى اليدوية، لكي يتحول القمح إلى دقيق، ويتحول الدقيق إلى أرغفة خبز، إعجاز يفوق الخوارق من الإعجازات، ولقد رأى عبد الناصر وهو في حصاره كل هذه المعاني، وجعلها بوصلته على الطريق.
يا أبناء أمتنا، لا تصدقوا الخدع المفضوحة، ولا النوازع المذبوحة، ولا الوعود المجروحة التي تنزف الدماء، إما أن تكونوا أو لا تكونوا، ليس هناك بين بين، وفلسطين بقضيتها وشعبها وقيادتها تناديكم، تقول لكم إن ثورة يوليو المصرية يجب أن تستمر فيكم بألف ألف إيقاع، وحينئذ ستكون العنصر المقرر وليس الضيوف الأيتام على موائد اللئام، كما يفخر نتنياهو بتطبيعكم فيصفق له ترامب فرحاً بسقوطكم، أنتم أمة أهدت العالم الهداية والعلم والثقافة والأخلاق، فلا يحق لكم سوى أن تكونوا بمستوى الإرث العظيم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها