لم يكن يعلم معاذ بان خروجه من منزله في ذلك اليوم سيكون الخروج الأخير وسيكون بلا عودة.. وفراقه لأشقائه وخاصة أصغرهم سيكون هو الفراق الأخير.. كما لم يعلم بان وعده الذي قطعه على نفسه لهم بأنه سيعود سالما لن يتحقق...
معاذ طفل جميل محبوب، أحبه والداه وإخوانه وأشقاؤه وجيرانه والجميع، لان روحه مرحة وضحكته لا تغادر وجنتيه ولا يغضب أحدا..
معاذ لم يعلم بان الموت ينتظره أسفل منزله وقدره سيأتيه بعد لحظات من مغادرته. ولم يعلم بان رصاصة غادرة ستفاجئه وتمزق صدره وتستقر في قلبه لتنزع روحه من جسده ليغادر الدنيا مفارقًا أحباءه لجوار ربه الذي سيقبله طيرا من طيور الجنة.
كيف لا وهو قُتل بلا ذنب. فهو لم يحمل سلاحًا ولم يحمل سكينًا ولا حجرًا.. فهو لا يعلم فيما يتقاتل هؤلاء ولا يعرف فيما تتشاجر هذه الجموع المستهترة بأرواحهم وأرواح الآخرين.. معاذ توقع كل شيء إلا أن يكون هو ضحية هذا الشجار، فهو ذهب لشراء لعبة له ولأخيه الأصغر الذي شاركه في جمع ثمنها من مصروفهما اليومي على مدار أسابيع ولم يظن للحظة بأنها الشيء الأخير واللعبة الأخيرة التي سيقوم بشرائها دون ان يلعب بها.. لعبة لطالما حلم بامتلاكها وباللهو بها مع شقيقه الذي أحبه كثيرا، وعندما تحقق الحلم يُقتل برصاصة غادرة وحقدٍ وتشاجر بين أشخاص لسبب أقل ما يقال عنه بأنه تافه.. شاب ينظر لشاب آخر فتتشاجر العوائل فيرمي كل طرف الآخر بالحجارة والزجاجات واطلاق النار، كيف لا والجهل سيطر على العقول وغاب أهل العقل والتفكير والتروي، ومات من يزن الأمور بميزان الحوار ورجاحة العقل وظهر من يزنها بميزان العنف والتعصب والقتل والحرق.
تفاجأ معاذ بعد خروجه من محل الألعاب بكثافة الحجارة والعصي والزجاجات الفارغة والحارقة تطلق في كل مكان في حارته وحيّه وشارعه وحرق منازل جيرانه التي أحبها وأحب من فيها من أطفال طالما لعب معهم أياما وساعات طوالا.. لا يعلم ما الذي حصل..
ينظر للعبته التي اشتراها فرحا كأنه ملك الدنيا كلها، ويسير وهو يحتضنها ينطر إليها مرة وأخرى لشرفة منزله الذي يقف عليها شقيقه الذي ينتظر لحظة وصوله ليفرحا معا.. لكنه ومن هول ما شاهد معاذ في شجار المتشاجرين جعله يرتجف خوفا، لا على نفسه، وإنما على لعبته وخوفه على ضياع فرحة شقيقه الصغير..
معاذ يصرخ بعفوية طفولته على هذه الجموع: توقفوا توقفوا.. لماذا كل هذا وعلى ماذا تتشاجرون؟ انا سأعتذر للجميع مهما كان الأمر صعبا... صرخة طفل بريء لم يسمعها احد منهم.. صرخة سعت لوقف هذه المهزلة ولحقن الدماء وليصل معاذ وكل الأطفال لمنازلهم وليسلم ما اشتراه له ولشقيقه.. يشاهد رجلا يرمي حجرا وشابا يرمي زجاجة، وطائش يحرق منزلا، وفتى يكسر مركبة، وآخر يشعل نار الفتنة والقتل.. صوت العقل لا يصدح به الا طفل يعتصر ألما على جيرانه وأهله وحيه وأصدقائه، لكنه يرتجف خوفا من المجهول الذي ينتظر هؤلاء الجاهلين المتشاجرين المتقاتلين بنظرة شاب لشاب لم تعجبه هذه النظرة.. معاذ لم يسمعه أحد وهو يختبئ من الحجارة يمسك بيده لعبته الجميلة الجديدة، وبالأخرى كسرة خبز يقتات عليها في مشواره القصير وعيناه تنظران لباب منزله وتفكيره منشغل بكيفية الوصول اليه دون ان يصيبه مكروه.. يفكر للحظات فيشعر بان الشجار قد هدأ قليلا ليقرر العودة ويبدأ بالركض وهو فرحا بالعودة وقرب الوصول للمنزل، ولكن القدر أكبر من كل شي.. اكبر منه ومن تفكيره وحلمه واستعجاله.. وقبل وصوله بأمتار يخرج شخصا لا يراعي طفولة ولا قرابة ولا صداقة ويبدأ بإطلاق النار في كل مكان، فيزداد خوف معاذ ويرتجف أكثر فأكثر، ودقات قلبه النابض بحب اخيه تتسارع وتفكيره يتسع برسم خطة الوصول، ولكن شيئا رهيبا يحدث لم يكن بالحسبان.. رصاصة طائشة تغشاه وتستقر في قلبه وتتناثر دماؤه وتسيل على صدره ووجهه وتغرق لعبته بدمائه. ينظر اليها فتسيل دمعته باكيا عليها لأن الدماء غرقتها دون ان يعلم بأنه سيغادر الدنيا بعد لحظات تاركا لعبته، وتاركا هؤلاء الأشخاص يتشاجرون ويتقاتلون في معركة اللا شيء الكبيرة التي راح ضحيتها طفل كان حلمه بان يلعب ويفرح بلعبته الجديدة.. طفل اطلق صرخته ليتوقفوا ويتراجعوا ويستخدموا عقولهم لحل مشاكلهم، وليرحموا الأهل والجيران، لكن الحقد أعماهم والعنف أغراهم وعدم التقدير تغلب عليهم.
معاذ غادر الدنيا تاركًا الجهل والعصبية والفتنة ونار حقد تشتعل في حيه وحارته.
معاذ ترك رسالته قبل ان يغادر بأن الحب والوئام والسلام هو الطريق الأسلم لتعايش المواطنين مع بعضهم البعض.. لكن هل من مستجيب؟
اغتيال براءة طفل
24-07-2019
مشاهدة: 156
لؤي أرزيقات
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها