تمكَّن بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة تسيير الأعمال من تسجيل الرقم الأول والأعلى في قيادة (إسرائيل)، حيث تجاوز زمنيًّا قبل ثلاثة أيام من الآن رئيس حكومة (إسرائيل) الأول، ديفيد بن غوريون، وبات دون منازع الحاكم الأطول حكما لدولة الاستعمار الإسرائيلية، وهو رئيس الوزراء الأكثر جلوسا على كرسي رئيس الوزارة بفترة متواصلة من 2009 حتى الآن 2019. وبالتالي يعتبر نتنياهو الملك الإسرائيلي الجديد دون منازع، ورغم كل فساده، وغروره وغطرسته، وعنصريته وكذبه، فإنه طبع الدولة الإسرائيلية بشخصه، وأفقد القيادات الإسرائيلية جميعا (خصومه) من داخل الليكود ومن خارجه الكاريزما القيادية، حتى لم يعد الشارع الإسرائيلي يرى بديلا عنه في المجتمع الاستعماري برمته، وأمسى نموذج النتنياهوية، هو الأهم، والأكثر تعبيرًا عن الشارع الإسرائيلي عموما واليميني خصوصًا، وتفوق على بن غوريون.
ويمكن لي من خلال المتابعة المتواصلة لتجربة الاستعماري الليكودي تدوين التحولات الجذرية، التي أحدثها، وطفر بها نتنياهو داخل الحزب والحكومة والجيش والقضاء والثقافة والحريديم والكنيست والمجتمع بشكل عام، ومنها: أولاً، أفقد حزب الليكود طابعه العلماني من خلال فتح أبوابه أمام المتشددين من الحريديم، فبات خليطا غير محدد المعالم؛ ثانيًا قلص إلى حد بعيد مساحة الحرية والديمقراطية الداخلية في الحزب، وصبغ الحزب بالديكتاتورية؛ ثالثًا أسقط الحزب والساحة الحزبية عموما في (إسرائيل) في دوامة اللغة الشعبوية والحريدية؛ رابعًا حارب خصومه ومنافسيه بطريقة مبتذلة وساقطة حتى بات الانتماء لـ"اليسار" تهمة، وأصبحت في (إسرائيل) فوبيا الاقتراب من اليسار، مع أن (إسرائيل) بالمعايير العلمية لا يوجد بها يسار سوى الحزب الشيوعي؛ خامسا تماهيه مع كرسي الحكم، ونرجسيته، وغطرسته جعلته يقاتل دون رحمة من أجل البقاء على رأس السلطة التنفيذية، ولم يستسلم للقضاء، ولم تهن عزيمته، رغم قضايا الفساد المثبتة عليه، وأصر على التربع على عرش (إسرائيل) الاستعمارية متحديا القانون.
وفي مؤسسة الجيش تمكن رئيس الوزراء الأطول حكما في (إسرائيل) من الآتي: أولاً تفريغ الجيش من ملامحه الأساسية الجامعة بين الكل الاستعماري الإسرائيلي؛ ثانيًا فتح الباب واسعا أمام الحريديم والمتدينين عموما، حتى بلغت نسبتهم داخل القوات العسكرية والصفوف القيادية حوالي 37%، والنسبة في ارتفاع مستمر؛ ثالثًا صبغ الجيش أكثر فأكثر بالروح اللاهوتية، وغيب المعايير التقليدية للجيش السابق على توليه رئاسة الحكومة؛ رابعا نجح مع أقرانه وحلفائه من المتدينين في تكريس النزعة الدينية داخل مؤسسات الجيش، وثبت المقولات والفتاوى الدينية الناظمة لعمل الألوية والكتائب في الجيش، وعزز دور الحاخامات المتطرفة، وأخذ في تعميم وإشاعة الحروب القادمة.
وعلى مستوى القضاء حصل تطور نوعي أيضًا لجهة أولاً حرف بوصلة القضاء كليًّا من قضاء مقبول نسبيا، إلى قضاء يميني متطرف؛ ثانيًا غير القوانين والعلاقات التبادلية بين مكونات القضاء؛ ثالثًا عزز مواقع المستوطنين في مكونات محكمة العدل العليا، وباتوا الأغلبية؛ رابعًا من ليس مع توجهه وخياراته السياسية وخيارات وزيرة العدل السابقة شاكيد من القضاة تم عزله؛ خامسًا عمّقوا جميعهم الطابع العنصري ضد الفلسطينيين واليهود الشرقيين خاصة الفالاشا.
وعلى صعيد الثقافة قامت ريغف، وزيرة الثقافة بفضل دعمه، بعنصرة الثقافة، وإلباسها الثوب اليميني واليميني المتطرف؛ ومحاربة حرية الرأي والرأي الآخر والتعبير الثقافي؛ ولاحقت المؤسسات الثقافية الليبرالية في طول وعرض البلاد؛ كما لاحقت المؤسسات الثقافية والفنية والأدبية الفلسطينية العربية؛ وحاربت اللغة والثقافة العربية بكل الأساليب القذرة والعنصرية؛ وطاردت المثقفين والأدباء والفنانين الليبراليين والفلسطينيين على حد سواء، وحرمتهم من الموازنات المرصودة لهم من قبل وزارة المعارف؛ وألغت العديد من الجوائز للمؤسسات والمبدعين الليبراليين والفلسطينيين. وبالتالي أمست الثقافة ذات طابع عنصري أصفر ومريض، ولا تمت بصلة للثقافة الإنسانية، وألغت كل مظاهر التسامح.
أما مؤسسة الكنيست التشريعية، فأولاً لم يعد الكنيست هو ذات الكنيست قبل الدورة السابعة عشرة، فجرى قلب التشريع بشكل فاجر ومخيف؛ ثانيًا أمست الغالبية المقررة في عملية التشريع، هي القوى اليمينية واليمينية المتطرفة والحريديم، وغيبت صوت القوى الليبرالية ثالثًا صادق الكنيست في دوراتها الـ18 و19 و20 على أكثر القوانين عنصرية ورجعية وعداء للسلام؛ رابعًا أصّل الكنيست لبلوغ (إسرائيل) لهدفها الاستعماري في مرحلته الاستراتيجية الثانية وبناء الدولة الإسرائيلية الكاملة على كل فلسطين التاريخية، وهذا ما شرعه قانون "أساس الدولة القومية اليهودية" الصادر في تموز/ يوليو 2018؛ خامسًا مارس اليمينيون المتطرفون أبشع أشكال التمييز والملاحقة لكل نائب ليبرالي وقبل ذلك النواب الفلسطينيين العرب، وما زال الكنيست وقواه وكتله المتطرفة تلاحق كل صوت ينادي بالعدالة النسبية تحت مظلته.
وعليه تكون الحكومات الأربع، التي تولى رئاستها نتنياهو عنصرية ورجعية ومعادية للسلام، ونقضت كل الاتفاقات المبرمة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وتخلت عن الحد الأدنى الممكن لبناء وصناعة السلام، والتي تمثلت اخيراً في هدم العمارات السكنية في واد الحمص بقرية صور باهر المقدسية يوم الإثنين الموافق 22/7/2019؛ وباتت جرائم الحكومات التي قادها نتنياهو تتم في وضح النهار، ودون أية خشية من القانون الدولي، وبعيدة عن ادنى القيم الإنسانية والمواثيق والمعاهدات الدولية.
وبالمحصلة الإجمالية حدث انزياح كبير في خارطة المجتمع الإسرائيلي، وبات أكثر يمينية، وتطرفا وعنصرية وعداء للسلام. وتمثلت العنصرية في رفض العديد من المدن والكيبوتسات السماح للفلسطينيين العرب بالسكن معهم، وكذلك رفضوا سكن أتباع الإثنية الأثيوبية (الفالاشا) معهم، وعزلوهم في أحياء خاصة، وحتى التبرع بالدم من قبل يهود الفالاشا أُلقي في حاويات النفايات، لم يعد المجتمع الإسرائيلي قابلاً القسمة على كل مكوناته، حيث يشهد انقساما حادا اجتماعيا وإثنيًّا ودينيًّا وحزبيًّا وثقافيًّا وقانونيًّا، مجتمع يغرق حتى أذنيه في مستنقع التناقضات الاجتماعية والعنصرية. أضف إلى أنّ الدولة الإسرائيلية تشهد عزلة دولية، ولكنها في الوقت نفسه تشهد تمددا في أوساط النظام الرسمي العربي، وهي مفارقة غريبة وبائسة، وتكشف حجم البؤس واللعنة التي تطارد الشعب الفلسطيني من أشقائه. لكن ذلك لا يساعد المجتمع والدولة الإسرائيلية على تجاوز لعناتها وبؤس مصيرها الآتي.
نتنياهو كشف الوجه الحقيقي لدولة الاستعمار الإسرائيلية المجرمة، كما هي ودون رتوش أو مساحيق، وأماط اللثام عن وجهها الرافض للسلام، الدولة اللقيطة والعنصرية، والمعادية لثقافة التسامح والتعايش والحرية، والمؤجّجة لعوامل الفتنة والإرهاب والحروب في المنطقة والعالم. وهو ما يملي على محبي السلام والشعب الفلسطيني إعادة نظر في آليات التعامل مع الدولة الإسرائيلية الاستعمارية، واشتقاق آليات عمل جديدة ونوعية لصناعة السلام العادل والممكن والمقبول.