لم تكف إدارة ترامب عمومًا، وفريقها الصهيوني خصوصًا المكلَّف بالملف الفلسطيني الإسرائيلي عن التغريد بشكل متواتر، والنضح من مستنقع آسن، وإعادة إنتاج الأفكار الميتة والمتعفّنة، والترويج لبضاعة فاسدة، وذات رائحة كريهة، ليملأ بها نقاط الفراغ الناقصة، أو التي لم يتم الإعلان عنها بشكل صريح خلال العامين الماضيين من عمر صفقة القرن المشؤومة.
وآخر الأفكار الفاقدة للمنطق العقلي، والعاكسة عمق الصلف والغطرسة الأميركية، والمغتربة عن واقع الصراع العربي الإسرائيلي، تلك التي بثّها مستشار الرئيس الأميركي، جيسون غرينبلات في مقابلته مع شبكة "بي بي إس" الأميركية يوم الجمعة (أمس) الموافق 19/7/2019، وادّعى فيها بكثير من الخفّة في مخاطبة الرأي العام، والاستغفال السياسي الأبله، أنّ دولة الاستعمار الإسرائيلية، هي في الواقع "ضحية، أكثر من كونها الطرف المسؤول عن الاستعمار والإرهاب والفوضى، وتدمير عملية السلام. وأضاف اليهودي الصهيوني العنصري "منذ لحظة تأسيسها تعرّضت للهجوم عدّة مرات، وهو (يقصد الفلسطينيين والعرب) الذين يواصلون مهاجمتها من خلال الإرهاب".
ليس هذا فحسب، بل إنّه أوغل في الاستخفاف بالحقائق التاريخية، وأدار ظهره لها، وأسقط رغباته، وتعاليم إدارته الأفنجليكانية حينما ادّعى: "أنّها من وجهة نظره لم ترتكب أي أخطاء على مدار عقود من الصراع المستمر". وتحدَّث كأنّه يسرد "حقائق" من الحقب والزمن البعيد، وكأنَّ "وجود إسرائيل الاستعمارية" لم يحمل بحد ذاته نكبة الشعب الفلسطيني، ولم يتمّ تشريد وتهجير وطرد قرابة المليون فلسطيني من بيوتهم، ومدنهم وقراهم ووطنهم الأم فلسطين، وكأنّ المجازر والمذابح، التي تعترف بها إسرائيل والحركة الصهيونية، وهي بالعشرات، كأنّها لم تكن، وكأنّها ليست هي من يؤجّج الصراع، ويشعل فتيل الحروب في المنطقة؟
ولم يكتف المستعمر الأميركي الجديد بما تقدَّم، بل إنّه أعاد التأكيد على أنه "لا يحب استخدام مفهوم المستوطنات والمستوطنين، لأنها تعابير تحقيرية"، واعتبر أنّ وصف المستعمرات "هو أمر مزعج" لأذنيه، ولقناعاته، ولخياره السياسي، ولاستراتيجية إدارته المتماهية مع دولة الاستعمار الإسرائيلية ارتباطًا بالأساطير اللاهوتية المعشعشة في الوعي الإفنجليكاني واليهودي الصهيوني.
ولم يكتفِ ثالث ثلاثة من الصهاينة الموكّلين بالملف الفلسطيني لتمرير الصفقة الفضيحة بما ذكر، فعاد وحاول إحياء مقولة خاطئة، لا بل تعتبر جزءًا من الخطيئة، التي حملتها اتفاقية أوسلو، والتي تم إسقاطها باعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين كعضو مراقب على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، وما أكد عليه قرار مجلس الأمن 2334 الصادر في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2016، وكرّر ما ذكره أكثر من مرة، فقال: "إنّ هذه المنطقة (الضفة الفلسطينية) متنازع عليها، وليست محتلة،" وبناء على ما تقدم اقترح تسميتها "بالأحياء الإسرائيلية"؟! وهنا يضرب تمامًا جذر التسوية السياسية، ومرجعيات عملية السلام، وقرارات الشرعية الدولية، ويبدد من حيث المبدأ كل فرضية السلام من الألف إلى الياء، ويشرعن لإسرائيل استباحة الحقوق والمصالح الوطنية الفلسطينية دون استثناء.
ولجأ مستشار الرئيس الأميركي إلى الكذب والافتراء على الحقيقة، عندما ادّعى أنّ خطة صفقة القرن لا يجوز الكشف عنها، كجزء من "الاستراتيجية الأميركية للحيلولة دون تعريض الاتفاق المقترح للهجوم، وقبل أن تصبح الخطة جاهزة". مع أن إدارته وضعت 400 صفحة من مكونات الصفقة (الخطة غير كاملة) أمام العديد من القوى السياسية والأمنية والحزبية الإسرائيلية منذ توليها مهامها في البيت الأبيض مطلع 2017. بتعبير آخر كانت الإدارة الأميركية شبه جاهزة، وملفها المتعلق بالمسألة الفلسطينية الإسرائيلية جاهز، أو شبه جاهز.
أضف إلى ذلك، أنّ ما أعلنه، وترجمه الرئيس دونالد ترامب، مثل الجزء الأهم من الخطة على الأرض (القدس، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، واللاجئين، الأمن، والحدود، حل الدولتين، حل الدولة، الحل الاقتصادي، التطبيع، قطع الأموال وحصار قيادة منظمة التحرير ... إلخ) لم يبقَ إلّا الرتوش، التي يملأ بها غرينبلات الفراغ الموجود، وبلورة الخطة بملامحها النهائية.
النتيجة أنّ غرينبلات ليس عنصريًّا فقط، بل هو وفريقه ورئيسه وإدارته شركاء أساسيون في العملية الاستعمارية الإسرائيلية، وإسرائيل ذاتها بما لها وعليها ليست أكثر من أداة وظيفية للاستعمار الأميركي، الذي تقوده إدارة ترامب فاقدة الأهلية السياسية والأخلاقية والقانونية وما أدلى به، يتطلَّب متابعة عملية الدفاع المشروع عن الحقوق والمصالح الوطنية العليا، ومحاصرة الإدارة الأميركية بكل الوسائل الممكنة، وتوسيع نطاق التحالفات والشراكة العربية والإقليمية والدولية لإسقاط صفقتها المعادية للسلام.