ليس من السهل الانتقال الإيماني من فكرة أو رواية الى أخرى مختلفة أو نقيضة، لأن الايمان (طريق طويل) يتم زرعه بكثير من النباتات الدالة، وتخليصه من كثير من الشوائب التي لا تسمح -أو تحد- من قدرة النمو.
إن الايمان لا يسقط بالقلب نتيجة حلم ليلة بل هو (طريق طويل) لأن الله سبحانه وتعالى أمدنا بالعقل غرض التأمل والتفَكُّر والنظر والتدبُر والبحث ليتحقق الإيمان الحقيقي، والذي دونه - أي هذا التدبُّر - يكون الايمان مفترضا واهيا وليس متجذرا.
الهدى هدى الله هذا صحيح، والله يهدي من يشاء بالطبع وكما قال الله تعالى، ولكن افتراض حصول ذلك دون عمل وجهد وبحث وتقصي واستفسار ومعرفة وعلم نوع من الوهم والتمني.
الرواية تأتي في سياق مرتبط بتنشئة ودراسة وتربية قد تفرض إيمانا محددا سواء كان هذا الإيمان بمعتقدات دينية أو تراثية أو شعبية أواجتماعية أو تاريخية أو مهما كان، ولذلك - وبعد سنوات - يصبح نقضها أو الايمان بالجديد بما يخالفها هو الدخول في طريق مختلف كليا.
هذا بالضبط ما فعله الأستاذ فاضل الربيعي في دراسته وبحوثه التاريخية / المستقبلية المهمة التي سعت لتحرير العقل العربي والمسلم من الرواية الواحدة، وسعت لجعل العقل مأمورا بما أراده الله من تفكير وتأمل وتدبر برفض المستقر من المفاهيم التاريخية والثقافية التي أُضفِيَ عليها طابع من الاحترام والإيمان وصل لحد القداسة الدينية.
إن اسقاط القداسة على السرد التاريخي وسِيَر الأوائل، ورفعهم لمستويات إلهية هي من غلواء الانبهار، أو أفعال السلاطين بقصد الهيمنة والسيطرة، أو أفعال المتطرفين الذين يعبثون بالفكرة والرواية والتاريخ لغاية محددة سياسية أو فئوية أو مصلحية، فتُقتَل الروايات المختلفة ويُسلط الضوء في اتجاه واحد ما يعنى أن تحل العتمة والظلام في بقع كان من المتوجب النظر اليها وتأملها مقدمة للنقض ثم الإيمان.
كان من المهم الاطلاع على كتب الأستاذ فاضل الربيعي وروايته الجديدة للتاريخ الذي نعيشه، لأنه وبالدلائل العلمية والبحث المضني يثبت في سِفرِه الطويل (فلسطين المتخيلة -أرض التوراة في اليمن القديم) أننا أمام واقع جديد ثم تزييفه عمداً من قبل المؤرخين الغربيين، وتساوق معهم المؤرخين العرب والمسلمين، نظرا لطبيعة أدوات البحث القليلة، أو جهلا، أو قلة وعي، أو لافتقاد المصادر الأخرى.
يتواصل الربيعي في رسالته التصحيحية التاريخية-العلمية عبر سلسلة كتب وأبحاث لاحقة لفلسطين المتخيلة مثل (القدس ليست أروشليم) و(أسطورة عبور الأردن وتدمير أريحا) وغيرها من الكتب على نفس المنوال من خلق مفاهيم ووقائع وعلوم جديدة تفترض بك التخلي عن إيمان سابق في طريق انحرفت مساراته لقصد أو بغير قصد لتتجه حيث البقع المظلمة قد أضاءها.
لا تستطيع أن تُفلت من بين يديك كتبه، خاصة وأنه يتعامل مع الماضي الذي نعيشه اليوم نحن كفلسطينيين (ونحن كعرب) وهو مستقبلنا حيث تقوم المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية في أحد أهم مرجعياتها الثقافية الفكرية التاريخية الدينية على (الرواية)، فأين تقع الحقيقة من آلاف السنين التي انهالت بمعاولها لتدمي قلوبنا بسلسلة من الأساطير والأكاذيب أو التأويلات والترويجات المستندة للتوراة المحرفة ما أثبته علماء الآثار الاسرائيليين، وما أزعج كثير من المفكرين الاسرائيليين أيضا فوقفوا يتفكرون ويتأملون ويراجعون روايتهم... أفلا نفعل نحن ؟
يبرز أمامك مدى تطابق (الرواية) التي ينقلها ويتأملها ويعيد انتاجها فاضل الربيعي في كتبه مع (القرآن الكريم)، فلا تجد تناقضا والقرآن الكريم لا يتعرض في غالب قصصه -ما قبل الاسلام- للمكان بالتحديد أو لمسرح الاحداث أو للجغرافيا، فيهدأ قلبك وتستقر روحك وينشغل عقلك بتتبع أين وقع الخلل ولماذا ؟ ليجيبك الربيعي في كافة كتبه بالتفصيل، ولك الحكم.
لطالما تساءلت عن السبب الذي يجعل العربي أو الفلسطيني أو المسلم مثلي يتجه بفكره وتأملاته وقراءاته نحو الإيمان بالرواية الجديدة التي تنسف المستَقِر، وتجلب التعب والشقاء بل والاشتباك أحيانا مع مغلقي العقول وأصحاب الاتجاه الفكراني (الأيديولوجي) السقيم ؟ أو الجهّال من المؤلبين على الفكر الحر، أو المناهضين للتدبُّر والتفكُّر المقدسين للأشخاص ورواياتهم السقيمة أو رواياتهم المنقوصة، أو حتى تلك التي وضعوها بحسن نية أو دون تمحيص استنادا لنص توراتي قال الله فيمن كتبوه (أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه) وأنهم (يأكلون به ثمنا قليلا).
إن الانتقال بالوعي والفكرة من محطة إيمانية قديمة الى محطة جديدة تحتاج الى حافلة أو وسيلة نقل يقودها ماهر وحصيف ما وجدته في الاستاذ فاضل الربيعي الذي يصحح تاريخ فلسطين والمنطقة في مشروع بحثي ضخم حيث نخرج بقناعة مطلقة أن هذه الأرض لنا، ولم يكن الآخرون بها وإن تواجدوا لزمن في فضاء جغرافي آخر وبعيد فهم انقرضوا مثل عاد وثمود.