حلت أمس الذكرى الـ46 لرحيل القائد والمفكر والأديب غسان كنفاني، الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي في العاصمة اللبنانية بيروت. وهي ذكرى أليمة ومرة وقاسية، لأن الشعب الفلسطيني خسر مناضلا من طراز استثنائي، نذر حياته باكرا جدا منذ أدرك نكبة شعبه فحمل معول الدفاع عن أهدافه الوطنية والقومية والأممية. واستجابة منه لنداء القضية والشعب انخرط في صفوف حركة القوميين العرب، واحتل موقعا قياديا متقدما في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث وقف على رأس الإعلام المركزي للجبهة، وتولى رئاسة تحرير مجلة "الهدف"، لسان حال الشعبية حتى استشهاده في الثامن من تموز/ يوليو 1972.

تميز غسان كنفاني عن مجايليه بغزارة الإنتاج المعرفي والأدبي والفكري السياسي. حتى احتل مكانة متقدمة في مواجهة المشروع الاستعماري الإسرائيلي، ما حدا بقادة جهاز الموساد تتبع أنفاسه، وملاحقته في أكثر من مكان، إلى أن تمكنوا منه، معتقدين أنهم بخطف حياته، يمكنهم أن يوقفوا طرقه على جدران خزان الثورة. لكن أبو فايز العظيم مازال حيا، ويقرع مع أبو الخيزران وكل الوطنيين الشهداء والأحياء من مختلف المشارب والاتجاهات السياسية جدران خزان الثورة والسلام.

لم يمت غسان أبدا، وإن ووري جسده الثرى، نعم توقف قلمه عن الإنتاج الفكري السياسي والأدبي، ولم يعد يشرب قهوة الصباح من يدي أم سعد، وترك مكتبه في مجلة الهدف على كورنيش المزرعة في بيروت لمن تابع مشوار العطاء. لكنه بما أنتج من روايات ودراسات ومقالات ولوحات فنية، ظل واقفا وشاهدا وحكما على مسيرة الصراع، كما حنظلة ناجي العلي. لم يغادر المكان ولا الزمان، لأن ما قدمه من دروس وعبر وإلهام أدبي وفكري سياسي، مازال طريا وقابلا للاستلهام حتى يوم الدنيا المعاش.

وهنا عبقرية غسان، الذي وافاه الأجل باكرا، وباكرا جدا عن 36 عاما، لأن الإسرائيليين القتلة لم يمهلوه طويلا في اكتمال قمره ونضوج سنابله، وحصاد حقله، والانتهاء من بناء معالم لوحاته، ولخشيتهم من عطائه، وسعة أفقه، وتدفق إنتاجه على الصعد والمستويات المختلفة، أصدروا حكما بالإعدام عليه من خلال تفجير جسده النحيل مع ابنة أخته لميس نجم بالقرب من دار الصياد في بعبدا.

ورغم ذلك بما قدم وأبدع وأنتج من معارف تبوأ مركز الصدارة بين أقرانه ومجايليه من الفلسطينيين والعرب وحتى الأجانب، فاستحق عن جدارة وصفه بالمبدع الشامل، لأنه أبدع في كل حقل من حقول المعرفة والفن. ومن يعود ويقرأ غسان كنفاني سيجد، انه يحاكي واقعنا ومعاناتنا ومأساتنا وبؤس حالنا، ويضيء أمامنا بدمه قنديلا لينير درب الآلام الفلسطيني العربي حتى بلوغ المشتهى الوطني والقومي.

بنجامين لادرا، قرع هو الآخر على جدران خزان الرأي العام العالمي. بنجامين الشاب السويدي المناضل الأممي أمضى أحد عشر شهرا سيرا على الأقدام من بلاده في أوروبا الإسكندنافية حتى جسر العودة على نهر الأردن، الذي وصله الأسبوع الماضي كي يدخل إلى أرض فلسطين المحتلة، ليعلن للعالم أجمع عن رفضه لجريمة العصر، وخذلانه من صمت وتخاذل العالم مع دولة التطهير العرقي الاستعمارية الإسرائيلية، لأنه حتى الآن لم يملك (العالم) القرار والإرادة لفرض الحل السياسي وفق مرجعيات عملية السلام وقرارات الشرعية الدولية، ومازال أسيرا وخاضعا لمحددات وعد بلفور المشؤوم. وليقل لكل ذي بصيرة سياسية أن الاستعمار الإسرائيلي للأرض الفلسطينية العربية، هو استعمار لكل العالم الحر، وهو إهانة وعار على جبين البشرية، التي دخلت من عقدين خلت الألفية الثالثة، ومع ذلك تواصل إسرائيل الكولونيالية استعمار الأرض الفلسطينية.

ورغم أن لادرا لم يتمكن من دخول أراضي دولة فلسطين المحتلة في الخامس من حزيران/ يونيو 1967 نتيجة رفض سلطات الاستعمار الإسرائيلية السماح له بذلك بعد أن أوقفته ست ساعات، لأنها خشيت منه، كما تخشى من كل صوت مهما كان صغيرا وضعيفا ينادي بمنح الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه الوطنية، إلا انه تمكن من إيصال رسالة سياسية عميقة الدلالات للعالم كله من أقصاه إلى أقصاه، عنوانها: نعم لحرية الشعب الفلسطيني، لا للاستعمار الإسرائيلي، لا لكل من يتواطأ مع إسرائيل الاستعمارية خاصة الولايات المتحدة، ولا لصفقة القرن المشؤومة، ونعم لاعتراف أوروبا الغربية اسوة بدولته السويد بدولة فلسطين.

بنجامين لادرا، هو نموذج آخر من المناضلين الأمميين المبدعين، الذين منحوا فلسطين وقضيتها جزءا مهما من حياتهم، ليعلنوا عن وقوفهم وتضامنهم العظيم مع كفاح شعبها التحرري. نعم، لا يملك بنجامين سلاحا، ولا مالا، ولا قوة التقرير في الشأن السياسي، لكنه امتلك الإرادة الفولاذية للتعبير عن رفضه للاستعمار الإسرائيلي، وامتلك بمسيرة أحد عشر شهرا سيرا على الأقدام من بلاده لحدود فلسطين مع الأردن الشقيق قوة العطاء والشجاعة والنبالة السياسية والأخلاقية والأدبية والإنسانية، وأرعب قادة حكومة الائتلاف اليميني المتطرف، وكشف عن عجزهم، وجبنهم، وإفلاس ذرائعهم الاستعمارية، وغطى رؤوسهم بالعار.

وسيبقى هناك من يقرع الجرس أسوة بغسان كنفاني الشهيد القائد والمفكر والأديب البطل وببنجامين لادرا، المتضامن الأممي الشاب، سويدي الجنسية والقومية، وبتعاظم عمليات القرع لجدران خزان الاستعمار الإسرائيلي، سينهار المستعمرون القتلة ذات فجر قريب.