لم تكن قمًةُ القدس في الظهران حدثًا عابرًا، ولا قمّةً عاديّةً تُضاف إلى سابقاتها الثمانية والعشرين، وإنَّما جاءت لتُشكّل تحوّلاً في الوضع العربي الرسمي الذي يتعرَّض للعبث المتواصل والمتصاعد منذ خرجت مصر من معادلة الصراع مع العدو بعد كامب ديفيد.
اللجوء إلى القدس ليس خيارًا من خيارات عديدة، لكنَّه الطريق الوحيد الممكن لمحاولة الخروج من عقدة النقص والدونية والهوان التي تعصف بالأمة من أقصاها إلى أقصاها.. فلا جبل تحتمي به ساريةُ إلّا القدس، ولا حصن يصدّ المغول عن بغداد إلّا فلسطين، ولا أمل بحماية الشام من أسراب الغربان وقطعان الذئاب سوى أسوار عكا.. لذلك تلجأ الأمّة كلما ضاقت بها السبل إلى فلسطين بحثًا عن هويتها الضائعة بين ويلات حروب الردّة والطائفية وويلات الإرهاب. قد يكون لبعض العرب أهداف كثيرة وهُم يحملون صورة القدس، لكنَّنا نرضى حتى أن يستخدموها لستر عوراتهم، فقد بلغ السيل الزبى، وجرت في نهر “الربيع العربي” دماء كثيرة، لذلك لا اعتراض على رجوع التائبين إلى محراب القدس للتكفير عن خطاياهم.. علمًا أنَّ القدس ذاتها تدرك أنَّ بين التائبين منافقين وتجارًّا وسماسرة! ومع ذلك فهي تنادي العرب من كل فجّ عميق: لا كرامة لكم إلّا هنا، ومن دخل القدس يا ألفَ أبي سفيان فهو آمن!
فلسطين أكبر من أمريكا، فنحن مغروسون في الأرض منذ وُلد التاريخ، ومهما ملكت أمريكا من أسرار القوة الغاشمة فستبقى عاجزة عن فهم المعادلة البسيطة التي تُسيِّر الكون الآن: تنتفض الأمم المتحدة كلها ضدَّ قرار ترامب الغبي بخصوص القدس، فيُؤجِل الإعلان عن “صفقته” حتى ترتوي الأرض العربية بمزيد من الدم وبمياه الخنوع الفاسدة. في أشد ساعات الليل سوادًا تقف فلسطين وحدها بقيادة رئيسها العنيد بالحق / أبو مازن، وتقول للعرب: لا تخافوا من أمريكا! ويظل رئيسنا واقفًا فوق جبل أُحد حتى يقتنع العرب أنَّ الغنائم التي تغريهم بها أمريكا مقابل رأس الفلسطيني ليست سوى سراب!
لن يجرؤ أحد من العرب كائنًا من كان على الجهر بالتماهي مع مشروع أمريكا وصفقته الفاشلة، فقد تجاوزت فلسطين هذا الموضوع وأصبح خلف ظهورنا، لكننا سنظل ندقّ أبواب العرب محذرين من خطر الطوفان.
نُدرِك أنَّ علاقات بعض العرب مع أمريكا تُشكِّل أساس عقيدتهم السياسية، لكنَّ قضية فلسطين ليست سلعةً تُباع وتشترى في بازارات العلاقات مع الدولة التي تحمي (إسرائيل) وترعى احتلالها لأرضنا.
قمّة القدس تقول للعرب: قضية فلسطين هي أُم القضايا، وبالتالي لا خطر يتهدَّد الأمة يوازي بعض الخطر الذي تشكله (إسرائيل). ونحن هنا لا ننكر على العرب حقّهم في حماية دولهم من عبث الجيران، لكن معظم هذا العبث سيزول عندما نقطع يد الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي.
قمّة القدس تُعيد فلسطين إلى واجهة الوعي العربي المثخَن بجراح “الفوضى الأمريكية الخلّاقة” وهذه نتيجة مباشرة لصمود فلسطين ورئيسها العنيد بالحق / أبو مازن.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها