ترمب أصبح في عجلة من أمره في موضوع إقامة "ريفييرا غزة"، وذلك بعد أقل من 36 ساعة على تصريحه بعكس ذلك. ولكن الجديد في تصريحه هذا، أنه هو الذي ينوي "شراء قطاع غزة" دون أن يصرح من البائع.
وما يفسر مثل هذه التصريحات، أن ترمب شخصية نرجسية مفرطة، بحسب كتاب للبروفيسور في علم النفس (دان ماك) بعنوان "حالة دونالد ترمب الغريبة: دراسة نفسية"، والذي جاء فيه أن الرئيس الأميركي لا يمكن التنبؤ بما سيقوم به، ولا يعترف أبدًا بالهزيمة أو الفشل، كما حدث ذلك عند إفلاسه في التسعينيات، وبإرتكابه الأخطاء في أعماله التجارية والاستثمارية، بالإضافة إلى اعتقاده بأنه هو المنتصر دائماً، ولا يكترث بأي حقائق تفيد بعكس ذلك.

وكان دونالد ترمب قد قال للصحافيين على متن طائرته الرئاسية حرفياً: "أنه ملتزم بشراء غزة وامتلاكها"، وأضاف: بأنه قد يمنح أجزاء من القطاع لدول أخرى في الشرق الأوسط لإعادة بنائها دون أن يسميها، مشيراً إلى أنه "سيحوّل غزة إلى موقع للتنمية المستقبلية لأنها موقع عقاري مميز لا يمكن أن نتركه. سنقوم بإعادة بناء غزة عبر دول ثرية أخرى في الشرق الأوسط". وطالما أن أي صفقة تجارية فيها طرفان: بائع ومشتر، والسؤال هنا هو من البائع؟.

ورغم عدم تصريح ترمب عن هوية البائع، فلن نأتي بجديد إذا قلنا بإن البائع هو قطعاً إسرائيل، لأن الفلسطينيين والهيئات السياسية التي تمثلهم على تعددها لا يعقل أنهم البائعون، بل على العكس تماماً فإنهم يكافحون منذ عقود للتخلص من الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي المحتلة. وما يدل على أن إسرائيل هي البائع في حسابات ترمب، أنه قبل تأسيس الحركة الصهيونية بسنوات، نشطت عائلة روتشيلد اليهودية صاحبة الثراء الفاحش والنفوذ القوي في أوروبا بشراء أراضي في فلسطين، متسترة على أهدافها الحقيقية من شراء الأراضي وإقامة وطن لليهود في فلسطين، كما أن مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتسل، كان قد عرض على السلطان العثماني عبد الحميد شراء أراضٍ في فلسطين لتوطين اليهود، مقابل أموال تمكن الدولة العثمانية من الخروج من أزمتها المالية.

وللولايات المتحدة تاريخ في السطو على أقاليم من جاراتها وشراء أخرى، حيث شنت حرباً على المكسيك بين عامي 1846 و1848، وانتزعت منها أقاليم كاليفورنيا ونيفادا ويوتا، ومعظم إقليمي أريزونا ونيومكسيكو، بالإضافة لأجزاء من كولورادو وويومينج، كما أنها اشترت ولاية لويزيانا من فرنسا النابليونية بـ 15 مليون دولار عام 1803، واشترت ألاسكا من روسيا عام 1867 بسبعة ملايين ومائتي ألف دولار. ولكن ترمب لم يقل إن حكومة الولايات المتحدة هي من سيشتري قطاع غزة، أو سترسل قوات لاحتلاله، بل قال: "أنا سأشتري" و"أنا سأمتلك".

ترمب يعتقد أنه بإمكانه شراء أي منطقة في العالم لاستثمارها عقارياً، فهو يمتلك شركة دولية تتخذ من برج ترمب وسط حي مانهاتن في نيويورك مقرًا لها، ويمتلك العديد من المشاريع التجارية والاستثمارية في الولايات المتحدة وخارجها. ومن مشاريع شركاته خارج الولايات المتحدة مثلاً، تحالفه مع شركة "دار جلوبال" السعودية لبناء "فِلَلٍ" بإطلإلات على خليج عُمان في العاصمة مسقط، وبتكلفة تصل لنحو 200 مليون دولار. كما أن لترمب مشاريع عقارية وعلامة تجارية في روسيا، رغم نفيه لوجودها بعد أن أثيرت قضية ما عرفت بـ "ملف روسيا- ترمب"، عندما كان يشغل رئيس الولايات المتحدة في العام الأول من ولايته الأولى. 

ولكن هل لترمب أن "يشتري" قطاع غزة لإقامة مشاريع عقارية به كمن يشتري "السمك في البحر"؟.
إن ترمب أعلن في آخر تصريح له حول مشروع "ريفييرا غزة" أنه هو شخصياً من سيشتري ومن سيطور هذه "الريفييرا" وبالتالي فإنه لا يفكر بل لن يتمكن، من إرسال قوات أميركية لاحتلال قطاع غزة لخدمة مشاريعه التجارية الخاصة، ولهذا فإن السيناريو المحتمل لتنفيذ صفقة بيع وشراء "ريفييرا غزة"، هو اعتماده على صديقه نتنياهو، بالاستحواذ على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين في سياق صفقة "مقايضة" بينهما، تقضي باستئناف نتنياهو الحرب على غزة للقضاء على أي أمل للغزيين لإعادة إعمار مدنهم وبلداتهم ومخيماتهم، وتشديد القيود على إدخال المساعدات المنقذة لهم، مما قد يجبرهم على الهجرة إلى دول قد يتفق ترمب معها على توطيينهم. 

ومقابل خدمات إسرائيل لترمب، فإنه من جهته سيوفر الدعم العسكري والمالي والسياسي لإسرائيل، بالإضافة إلى اعتراف إدارته بسيادتها على الضفة الغربية أو أجزاء منها، وإطلاق يدها قتلاً وتدميراً في الضفة، بهدف دفع المواطنين للهجرة منها أيضاً. وإذا نجح هذا السيناريو، فإن ترمب لن يعدم الوسائل لعقد صفقات تجارية بين شركاته وشركات إسرائيلية، لتنفيذ مشروع "ريفييرا غزة"، بإقامة المنتجعات وكازينوهات القمار، بالإضافة لإستخراج النفط والغاز من باطن أرضها ومن بحرها وشواطئه. 

إن الحديث عن "شراء" قطاع غزة أو تطهيره من سكانه لإقامة مشاريع عقارية، ما هو إلا هلوسات وأحلام يقظه، لأنه على ما يبدو أن ترمب لم يشاهد السيل البشري الذي تدفق من جنوب القطاع إلى شماله المدمر بالكامل، بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وهذا السيل البشري يشير إلى أن الغزيين بعودتهم إلى مناطقهم التي يعلمون أنها مدمرة متمسكون بأرضهم، ولديهم العزم على إعادة إعمار ما يتمكنون من إعماره. وكذلك فإن على ترمب أن يقرأ تاريخ القضية الفلسطينية، ليفهم أن ما يصرح به عن توطين الفلسطينيين خارج غزة والضفة الغربية مجرد هراء، فمشروعه حول تهجير الغزيين لإقامة "ريفييراته" يُضاف إلى أكثر من أربعين مشروعاً مشابهاً له بطريقة أو بأخرى، لتهجير اللاجئين الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية منذ 1948 إلى اليوم، وكان مصيرها جميعاً الفشل، فلا هي نجحت في توطين اللاجئين، ولا هي أنستهم حق العودة إلى ديارهم. وعاجلاً أم آجلاً فإن ترمب سيدرك أن الفلسطينيين ليسوا هنوداً حمر، كما أنهم ليسو شعباً زائداً على البشرية وأن أرضهم ليست للبيع.