بعد أن فقد العالم العربي مظلته السلطوية الجامعة، ولو نظريا، المتمثلة بالسلطنة العثمانية، واقتسام (أملاك) العثمانيين في المؤتمرات (سايكس بيكو1916) ثم (سان ريمو1920) و(معاهدة سيفر) أصبح العرب تحت مظلة الاستعمار الغربي المباشر.
كانت الحركات القومية، سواء التركية أو العربية، قد ظهرت في اسطنبول-تركيا أواخر العهد العثماني الذي كان يصارع من أجل البقاء دون جدوى، وبعد أن رزح العالم العربي تحت وطأة الاحتلال والاستعمار الغربي، بدأت الحركات القومية (اللاوطنية غالبا)"1" بالظهور استكمالا لتلك المحاولات عبر الجمعيات التي نشأت في اسطنبول وبعض العواصم العربية .
واذا ألقينا الضوء على الثورة العربية الكبرى (1916) ثورة الشريف الحسين بن علي فإنها تمثل أول فكرة نهضوية عربية لعرب المشرق تنجح لتصبح منارة للتحرر العربي.
فشلت المحاولات النهضوية العربية نتيجة الاحتلال للمشرق العربي (كانت الجزائر قد احتلت في العام 1830 وحتى العام 1962م، واحتلت تونس في 1881 حتى 1965مـ واحتلت مصر في1882) اشتعلت المقاومة العسكرية في أكثر من قطر، ولكن لم يكتب لأي منها النجاح، وإنما ظلت حتى اليوم كمصدر إلهام قومي عروبي.
لم ينكفئ العرب إثر فشل ثوراتهم ضد الاحتلالات المختلفة، بل ظلوا يسعون للتحرر من نير الاستعمار، و دخلوا القرن العشرين مع نمو الحركة الاشتراكية (بعد انتصار الثورة البلشفية الشيوعية الروسية عام 1917) ومع انتشار الأفكار القومية خاصة للمفكرين من سوريا ولبنان ثم فلسطين والعراق ومصر.
استطاع تيار آخر، غير التيار القومي والتيار الاشتراكي، أن يضع قدمه في بركة التيارات المتصارعة، وهو تيار "الاخوان المسلمين" منذ العام 1928 والذي اعتبر نفسه ممثلا للإسلام والمسلمين معا.
تصارعت الأحزاب ذات الطابع القومي"2" (القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب السوري القومي الاجتماعي، ولاحقا الناصرية)، وتلك الاشتراكية الشيوعية، مع حزب الإخوان المسلمين ، ومع نوال عدد من الدول استقلالها، ظلت فلسطين والقضية الفلسطينية تعاني من احتلالين، الاول بريطاني والثاني صهيوني، فتميز الوضع الفلسطيني بالفرادة والتميز وبالصعوبة التي ما زالت ماثلة حتى اليوم.
الفلسطينيون الذين نُكبوا باللجوء عام 1948 بل وقبل ذلك لم يجدوا لهم بدّاً من الانضمام لأحد التنظيمات أو التيارات الفكرية الثلاثة الأساسية المذكورة أعلاه، والتي لم تخلُ أدبيات أي منها من الاشارة بشكل أو بآخر لفلسطين وتحرير فلسطين، ولكن دون جدوى، فظلت الشعارات عبارة عن طنين، واللاجئون لا ينتظرون، وفلسطين ترقد في القريب.
البعثيون والقوميون العرب استقطبوا قطاعا واسعا من الشعب الفلسطيني بأفكار ميشيل عفلق (أبو محمد) وزكي الارسوزي وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار، وكان للشيوعيين من العام 1919 نصيب من الاستقطاب للعرب والفلسطينيين رغم انشقاقاتهم الكثيرة .
"الاخوان المسلمون" والوطنية
دخل "الاخوان المسلمون" إلى فلسطين في الاربعينات حين بدأوا بتأسيس أفرعهم، فنالوا نصيبا هم الآخرون، لذلك توزعت مشارب الفلسطينيين ، ولكن الشعارات لا تُغني ولا تسمن من جوع، الى ان انطلقت حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في الفاتح من يناير للعام 1965.
كانت الهوية الفلسطينية بمعناها الذي كرسته حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح، والثورة الفلسطينية، تتعرض للإنهاك من الأفكار الكبرى الثلاثة (الايديولوجيات) التي شنعت المفهوم الوطني، واعتبرته إما رجعية أو اقليمية ضيقة، أو فكر مناهض للإسلام! حيث الوطنية وثنية كما القومية والاشتراكية.
عمل "الاخوان المسلمون" الفلسطينيون كما عمل القوميون والشيوعيون على الطعن في (الوطنية) الفلسطينية كما ذكرنا، ومما يشار له من سلوك (الإخوان المسلمين) حول الأمر من الممكن أن نرى ستة مظاهر:
المظهر الأول: عمدت أدبيات "الإسلاميين" عامة ومنها أدبيات "الاخوان" في فلسطين على تجريد (الوطنية) من بُعدها الاسلامي أو حصرها بحب الوطن وبالإطار الإسلامي الشمولي؟.
المظهر الثاني: وحدانية التمثيل للإسلام تقع فقط في حدود الحزب (الجماعة).
المظهر الثالث: التسامي عن الوطنية وافتراض العصمة.
المظهر الرابع: الاستعلائية (حيث شعار الولاء والبراء والاستعلاء).
المظهر الخامس: الانغلاق ورفض المخالف.
المظهر السادس: انتشار الأساطير المرتبطة بالدين، وغياب النقد للتجارب.
هذه المظاهر الستة، جميعا، وقفت كحائط دفاعي اسلاموي ضد كل المفاهيم أو الأفكار الإنسانية، ومنها الفكر الوطني ضمن فرضية غريبة تدعي أن الوطنية والقومية فكر مناهض للإسلام؟! وكذلك الأمر مع الاشتراكية والديمقراطية والعلمانية.
المفكر الفرنسي(روا) و"الإسلام السياسي" والوطنية
من الممكن الإشارة بهذا الصدد للمفكر الفرنسي "أولفييه روا" حيث يقول في كتابه (اخفاق الإسلام السياسي) عن تجربة "الاسلامويين" "3": (إن الحركات الإسلامية التي انخرطت في العمل السياسي انتهى بها الأمر إلى قبول الصيغة الزمنية، شأن «النهضة» التونسية وحزب «العدالة والتنمية» التركي، والصيغة الوطنية (أو القومية). وهذا ما سميته الإسلامية – الوطنية التي تمثلها «حماس» خير تمثيل.
ويضيف روا قائلا: (وثمة صنفان من هذه الصيغة: صنف أول يقود إلى الديموقراطية، على شاكلة تونس وتركيا، وصنف آخر يقود إلى الديكتاتورية، على شاكلة إيران. وينجم عن الصنف الثاني ظهور حيز غلو ديني يخرج من الدائرة السياسية الوطنية، وهو يدعو إما إلى انتهاج مثال حياة، وليس إلى إنشاء نظام سياسي (وهو حال الحركات السلفية التي أسميها في الكتاب أصولية جديدة)، وإما إلى الجهاد العالمي الذي يعلو المجتمعات الفعلية والدول - الأمم. وهذا النهج أمسى الشكل الحاد الذي يتصور فيه عنف الغلاة الإسلاميين اليوم على رؤوس الأشهاد)."4"
الهوية الوطنية وبوتقة حركة فتح
إذن، كانت فكرة الوطنية بمعنى: الانصهار للكلّ النضالي في بوتقة تحرير فلسطين، كما رأت حركة فتح، وبغرض التخصص والتكرّس والتركيز في الجهد والوقت والعمل كانت فكرة صلابة ومواجهة ومقاومة، مقابل حوائط ضخمة استطاعت التصدي لها، والقفز عليها.
كما استطاعت حركة "فتح" أن تبرز الفكرة الوطنية وتشبعها من خلال المبادرات والعمل، ولا شيء سوى العمل والمبادرة والعطاء لفلسطين، إذ تَحوَّلَ الشعارُ لفعل، ولم يبقَ عند حدود الورق أو الحناجر، كما كان شأن الايديولوجيات الثلاث.
ماجد كيالي ود. نديم روحانا وغيرهما من الكتاب المهمين، والمعارضين لفكر حركة "فتح" يشيرون رغم ذلك بإعجاب لدور حركة "فتح" في بناء الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة.
فيقول كيالي: (تدين القضية "5"الفلسطينية بمعناها الهوياتي والسياسي والكياني في تبلورها لحركة فتح) موضحا الأسباب بالقول لأنها حركة تشبه شعبها، ولأنها جمعت الكادحين، ولأنها جعلت المنظمة كياناً بديلاً عن فقدان الأرض.
ويقول ماجد الكيالي أيضا: "هكذا سيسجل التاريخ لحركة فتح التي انطلقت في مطلع 1965 بأنها كانت السباقة لحفر الأفكار التأسيسية للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، فهي التي كرست مفهوم الوطنية الفلسطينية "المستقلة" وتاليا فكرة الكيانية السياسية عند الفلسطينيين".
يذكر د.مازن صافي"6" عن الهوية الوطنية الفلسطينية –شأن الوطنيات الأخرى مع باب تميز إضافي-في مقال له ،ما نتفق فيه معه، أنها أي الهوية الوطنية: (تشمل اللغة والتاريخ والثقافة "الدين والقيم والحضارة الجامعة" والتاريخ، أما حين نتحدث عن الهوية الفلسطينية، فإن البعد التاريخي للنضال الوطني، يدخلنا في بُعد آخر وهو مقاومة المحتل "بأي وسائل" وبهذا تتميز الهوية الوطنية الفلسطينية بالبُعد الكفاحي الرافض للنفي والتشريد والإحلال والعنصرية والاضطهاد والاحتلال).
إن الهوية الوطنية الفلسطينية هوية نضالية، وهوية وحدوية جامعة،"7" فهي تقبل أن يكون الشخص فلسطينيا وعربيا وبدويا ومسلما أو مسيحيا، بمعنى أنها تميزت بالقدرة على احتواء الانتماءات وصهر الهويات الصغيرة.
بحيث أنك تجد حتى اليوم بشهر مارس 2017 وضمن استطلاع مؤسسة بديل الفلسطينية أن 83% من المستطلعين يقولون أن الفلسطيني هو الشخص من أصول فلسطينية، وليس الشخص في أراضي 48 فقط أوفي قطاع غزة والضفة فقط.
ورغم ذلك لا يمكن أن نقفز عن الدور الذي لعبته الثورة الفلسطينية في العالم بمرحلة من المراحل، حين جعلت من الهوية الفلسطينية أيضا هوية نضالية عالمية للأحرار بالعالم اجمع.
كتب (نلسون مانديلا) عن ياسر عرفات ممثلا للوطنية كقضية أمة، ورمز للعالم الحر كنموذج تحت عنوان: "عرفات نقل قضية شعبه من قضية لاجئين إلى قضية أمة" يقول: "هو الذي وضع المسألة الفلسطينية على جدول أعمال المجتمع الدولي، ونقل قضية شعبه من قضية لاجئين إلى قضية أمة بكامل المعنى... لقد كانت حماسته وثقته لا تتزعزع، والتزامه بالكفاح من أجل إقامة الدولة الفلسطينية تشكل قيما رمزية في نظر الكثيرين في العالم... سوف يبقى الرئيس عرفات إلى الأبد رمزا للبطولة بالنسبة لكل شعوب العالم التي تكافح من أجل العدالة والحرية". "8"
الهوامش:
[1] نقصد بالقومية اللاوطنية تلك التي لم تقرّ تحديد فواصل بين ما أصبح لاحقا دولا عربية، حيث إما دعت للوحدة العربية عامة فدعت للقومية العربية إما بالمشرق العربي أو بالمشرق والمغرب العربي، أوللوحدة الشامية (الحزب القوي السوري الاجتماعي)، بمعنى أن قبول الفكرة الوطنية كان منبوذا كليا.
[2]د.نور الدين ثنيو منتقدا جميع الحركات القومية -وهو ما دعا حركة فتح ضمن أسباب أخرى لأن تختط طريقا ثوريا مغايرا للاسلاموي والقومي الشوفيني والاشتراكي، يقول:(إن التعويل الحصري على اللغة العربية من قبل القوميين العرب، كما سبقت الإشارة، كان في موضع الاستنجاد بها وليس للإبداع والإنتاج المعرفي والثقافي، بل كان التعويل على اللغة محمَّلا بالبطانة السياسية الظرفية للخروج في البداية من الأسر العثماني، ثم صارت بعد ذلك تعاند في توظيف اللغة في تمجيد الدولة والحزب والقائد، وعلّقت كل شيء على السلطة، ولم تراع التَّنوع والاختلاف والكثرة التي تزخر بها المجتمعات والشعوب العربية. وهكذا، فقد خلفت مزاحمة السياسة للغة واستغلالها، إلى النيل من عبقرية اللغة العربية في لحظتها الحديثة، عندما تمت مضايقتها وحشوها بمفردات وكلمات مبهمة وملتبسة، يصعب استيعابها بتلقائية ويسر، نشير إلى تعريب المفردة الأجنبية بأكثر من معنى، أو ما دون المعني أو إلى معنى خاطئ أصلاً، فضلا عن الأثر السلبي الذي تركته الحروب العربية العربية، والخلافات السياسية والمماحكات والسِّجالات بين الأنظمة العربية الحديثة، التي قلمّا امتلأت أجهزتها بقيم ومبادئ وطرق تسيير الشأن العام والدولة المدنية على أسس من التناوب والديمقراطية.)- من مقال له في القدس العربي على الشابكة 15/4/2017
* للإطلاع على طبيعة التعبئة داخل الإخوان وحماس بالرجوع لعيد الكتب التي منها كتاب عماد الفالوجي درب الأشواك، أو كتاب بكر أبوبكر الديمقراطية والتعبئة في التنظيمات الاسلاموية، وفي حماس.
[3]أوليفييه روا* أستاذ في المعهد الجامعي الأوروبي بفلورنسا، عن ملحق بالطبعة الثانية في كتابه الصادر في 1990 «إخفاق الإسلام السياسي» في «إسبري» الفرنسية، ، إعداد منال نحاس5/2015
[4]يضيف "روا" ملخصا فكرته الرئيسة هنا: (ويفضي بي هذا إلى موضوعتي الأخيرة: ليس التزمين (الزمنية) هو الطريق إلى الديموقراطية أو شرطها اللازم، بل إن الطريق إلى الديموقراطية قد تمر بتعدد معايير الحقل الديني وتبلور أشكال تدين جديدة هي ثمرة الميول الفردية واختبار أبنية مركبة ومرتجلة وذواء الأبعاد الثقافية (ودرست هذه الأشكال في «الإسلام المعولم» و «الجهل المقدس»). ويخسر الإسلاميون في المقارنة مع الصور الجديدة حجة الأصالة والهوية. فإذا تعددت معايير الحقل الديني ومراجعه جاز الائتلاف مع الديموقراطية، وإن لم يعتنق المؤمنون الليبرالية، والثورة الأميركية مثال تاريخي على الجمع بين الأمرين.)
[5]ماجد كيالي، فتح 50 عاما، قراءة نقدية في مآلات حركة وطنية،المؤسسة العربية للنشر، الطبعة الاولى، بيروتن 2016 واعادة طباعة مركز مسارات، ص22
من مقال للدكتور الكاتب الفلسطيني مازن صافي منشور في موقع (نقطة وأول السطر).[6]
[7]يقول ماجد كيالي عن حركة فتح: أنها حركة شعبية وتعددية ومتنوعة، رغم أنها شديدة المركزية ، مضيفا أن الكفاح المسلح لعب دورا كبيرا في الترويج لها وتعزيز مكانتها في المجال الشعبي، نفس المصدر ص26
[8]يمكننا العودة للتأبين بالراحل القائد الرمز ياسر عرفات وكلمات قيادات العالم بذلك، ومنهم مانديلا الذي في رده على الكاتب الأمريكي "توماس فريدمان" دفاعا عن عرفات قال:(أن الفلسطينيين لا يناضلون لإنشاء دولة،ولكنهم يناضلون لأجل،الحرية والاستقلال والمساواة، مثلما ناضلنا،نحن،في جنوب إفريقية.) وتجد التفاصيل بهذه على موقع امد https://www.amad.ps/ar/Details/7732
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها