وأخيرًا هدأت عاصفة الانتخابات الأميركية بعد شهور من تبادل الاتهامات ما بين المتنافسين وخرج ترمب من هذه العاصفة منتصرًا حاملاً الراية ليرفعها مرة ثانية على سارية البيت الأبيض في العشرين من شهر يناير القادم ليعلن عن البدء بمرحلة جديدة ومن غير المعقول أن لا تكون مختلفة عن ولايته الأولى كرئيس حمل الرقم 45 في قائمة الرئاسة الأميركية.
الولاية الأولى اتسمت في الكثير من التخبط لأن ترمب في حينه كان يتصرف كتاجر عقارات لا يرى غير الصفقات والربح والخسارة ولم يمر أسبوع دون مفاجآت خصوصًا وأن الرئيس ترمب في حينه كان يُقاد من النسيب والحسيب جاريد كوشنر الذي كان له تأثير السحر على ترمب لدرجة أنه أقنعه بنقل السفارة إلى القدس وأقنعه بحق إسرائيل في الجولان وحقها بضم معظم ما تبقى من فلسطين التاريخية للولاية الصهيونية وذلك بتوجيه كامل من نتنياهو وقد برر ترمب قراره بنقل السفارة إلى القدس أنه استمع إلى درس في التاريخ لمدة خمس دقائق وهو ما يؤكد على أن ما استمع إليه كان مزور ولم يذكر في حينه من هو هذا الساحر الذي تمكن من إلغاء هوية فلسطين التي تعود ملكيتها للفسطينيين منذ ما قبل نزول التوراة.
هذا التخبط كان سببًا في خسارة ترمب أمام بايدن في سباق الرئاسة السادسة والأربعين بدليل أنه خرج من البيت الأبيض في حينه كما دخله وهو جاهل في التاريخ وجاهل في السياسة وجاهل في أمور الحكم لدرجة أنه خرج من الباب الخلفي حتى لا يراه أحد ورفص تسليم المفتاح للساكن الجديد وهو الرئيس بايدن أو حتى يهنئه بالفوز ولو تليفونيًا كما جرت العادة مع كل من سبقوه.
ما جرى في الحملة الانتخابية الأخيرة وما نتج عنها يشير إلى أن ترمب الرئيس السابع والأربعين هو بالتأكيد ليس ترمب الرئيس الخامس والأربعين خصوصًا وأنه مر بأربع سنوات عجاف ما بين الولايتين قضاها ما بين المحاكم وتخلى عنه من اعتقد أنهم حلفاءه وبطانته إضافة إلى تعرضه للاغتيال كل ذلك لا بد وأن يكون قد جعل منه رئيس مختلف بعد أن وظف أرباح تجارته ودفعها أثمانًا لعدم دخوله السجن ولكنها لم تمنع عنه تهمة الإدانة كمجرم وهو ما جعل من ترمب كرئيس مدان بجرائم هو حالة مختلفة في تاريخ الرئاسات الأميركية التي ستلاحقه حيًا وميتًا إلا إذا تمكن من محو ذلك وفي اعتقادي أن هناك فرصة متاحة له هذه المرة إن هو فعلاً استفاد من تخبطات وأخطاء الماضي وأزعم أن لديه النية وإلا فإن كل ما قاله عنه مايكل وولف في كتابه النار والغضب بما في ذلك القصور الذهني هو فعلاً صحيح.
ما سبق يجعلني أعتقد بأن عودة ترمب إلى البيت الأبيض لا بد وأنها ستكون بحلة جديدة شكلاً وموضوعًا عن سابقتها وكأنها عودة المنتقم بعد أن خذله كل من أحسن إليهم وعلى رأسهم نسيبه كوشنر الذي وشى به للأف بي أي الذين داهموا بيته بحثًا عن وثائق سرية بزعم أنه احتفظ بها بعد خروجه من البيت الأبيض دون حق، إضافة إلى أن نتنياهو الذي قاد ترمب طيلة فترة ولايته الأولى وحقق له كل رغباته بدأ بالقدس ومرورًا بالجولان وثلثي الضفة الفلسطينية ضمن صفقة عُرفت بصفقة القرن صاغها وكتبها نتنياهو مع صبيه كوشنر ونفذها ترمب وهو أقصى ما يمكن أن يفعله أي رئيس أميركي لبني صهيون ومع ذلك سرعان ما تخلى عنه نتنياهو كسبًا لود بايدن بحسب قانون المصالح الخاص بنتنياهو وهو الأمر الذي اكتشفه ترمب سرعان ما خرج من البيت الأبيض بعد هزيمته أمام بايدن ما دفع بترمب ليشتمه بأسوأ العبارات.
وفي قراءة متتالية للمعركة الانتخابية الأخيرة يتضح بأن الصوت اليهودي لعب دورًا حاسمًا هذه المرة لصالح ترمب ليس حبًا وإنما انتقامًا من منافسته التي أقيمت الصلوات في إسرائيل لاسقاطها، كمالا هاريس، لأنها زعمت بأنها سوف تعمل عكس رئيسها بايدن وأنها لن تصمت إزاء ممارسات نتنياهو في محاولة لكسب الأوساط العربية والإسلامية وأيضًا كسب جماهير الغضب من طلاب الجامعات الأميركية والأقليات الأخرى التي وقفت إلى جانب ضحايا حرب الإبادة النتنياهوية ضد الشعب الفلسطيني والتي كان الرئيس بايدن شريكًا فيها سرًا وعلنًا.
إلى ما سبق أضيف الخبرة السياسية الكبيرة التي اكتسبها ترمب وتحديدًا في موضوع النفاق السياسي ومن أين تؤكل الكتف وها هو يقول في مقابلة تليفزيونية مع باتريك ديفيد بأن صاحب القرار النهائي في أميركا ليس الرئيس المنتخب وإنما الدولة العميقة والتي فسرها بقوله أن هناك ثلة يمثلون الدولة العميقة وهم ليسو أغبياء ولكنهم مرضى ومجانين "Sick and Lunatic".
الرئيس ترمب وظف الممكن وغير الممكن هذه المرة لدرجة تعرضه للاغتيال من أجل الفوز لتحقيق نصر شخصي ذاتي قبل الرئاسي بالعودة إلى البيت الأبيض وهو عكس ما كان عليه الحال في المرة الأولى وهنا أذكر ما تم بينه وبين زوجته ميلانيا التي أُرهقت كثيرًا نفسيًا وجسديًا من حرارة الحملة الانتخابية في الفترة الأولى وتوسلت إليه بأن ينسحب من الانتخابات ويعودوا إلى بيتهم ليعيشوا بسلام وكان رده عليها بأن لا تقلقي بعد شهر ستنتهي الانتخابات ونعود إلى البيت لأنني لا أتوقع النجاح ولكني حققت ما أردته وهو الوصول للترشح للرئاسة.
ثماني سنوات كانت عجاف بكل ما تعنيه الكلمة في تاريخ رجل المال والأعمال الملياردير والرئيس الأسبق والقادم للولايات المتحدة الرئيس ترمب في اعتقادي أنه سوف يوظفها بما لها وما عليها كأدوات لصناعة تاريخ مختلف وفي هذا الصدد أرى بأن لجنة نوبل سوف تفتح له ذراعيها إن هو فعلاً أثبت أنه تعلم من أخطاءه في الحكم والسياسة إبان رئاسته الخامسة والأربعين لأميركا واتقن الدراسة في التاريخ غير المزور لأن التاريخ الصحيح يقول بأن الكيان الصهيوني تأسس وقام بقرار ليس رباني، وإنما سياسي أممي يحمل رقم 181 وقبول هذا الكيان عضو في الأمم المتحدة سنة 1949 كان مشروطًا وما زال هذا الكيان لم يفي بشروط هذه العضوية وهو ما يجعل منه كيان مارق ولا غرابة في أن الرئيس ترومان رفض الاعتراف بإسرائيل دولة لليهود لأن سكانها الأصليين من المسلمين والمسيحيين.
ترمب الجديد لا بد وأن يترجم نجاحه التجاري وفشله السياسي السابق إلى نجاح سياسي عالمي وفي اعتقادي أنه أصبح قادر على ذلك بداية بأن يعيد أميركا إلى ما كانت عليه قبل تبنيها للكيان الصهيوني العنصري بعد حرب سنة 1967 لأسباب استعمارية مصلحية وهذه قد انتهت بمجرد أن انتهت الحرب الباردة وبعد أن أصبح الكيان الصهيوني عبء أخلاقي على أميركا بعد أن ثبت بأنه كيان عنصري يحكمه عصابة من الفاشيين برئاسة نتنياهو إضافة إلى أن ترمب أصبح على علاقة صداقة مع كل أعداء الماضي بمن فيهم روسيا ناهيك عن علاقته مع حكام العرب.
الرئيس ترمب لم يكن يومًا إيدولوجيًا لا بصهيونيته ولا بحزبيته الجمهورية ولكنه كان إيدولوجيًا بمواطنته الأميركية التي أكد عليها بشعاره الانتخابي أميركا أولاً ومن أجل عودة أميركا إلى ما كانت عليه من عظمة واحترام دولي في عهود روزفلت وترومان وايزنهاور وذلك بسبب احترام هؤلاء الرؤساء والتزامهم بمباديء وقيم الدستور الأميركي الذي يقول وزير خارجيته الأسبق دين اتشيسون في مذكراته: بأن "ميثاق الأمم المتحدة بكل ما فيه من قيم وقوانين أساسها احترام حقوق الإنسان هو نسخة مكثفة عن الدستور الأميركي ولا أعتقد بأن الرئيس ترمب بحاجة لمن يذكره بأن الكيان الصهيوني هو الوحيد في العالم الذي يعمل ومنذ قيامه على تحدي هذا الميثاق الأممي وضربه بعرض الحائط وعدم احترامه للقانون الدولي والشرعية الدولية وكأنه كيان فوق القانون.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها