بات من الواجب وضع النقاط على الحروف. من الواجب تسمية الأمور بأسمائها الواضحة والمحددة. لقد طفح الكيل، وامتلأت خوابي الصمت كلامًا في العمق.
كفى فشخرة ومسخرة، وتحايلاً وتزويراً وطمساً للحقائق. وكفى استهبالاً لعقول العباد.
في بازار المواجهة المستمرة بين حركة حماس وحركة فتح- والحمد لله- غابت الآيات والأحاديث المباركة والشريفة، وبات الأمر مقارنة بين سياستين "موحدتين- متصادمتين". أي أن المعلن في المشروعين السياسيين لكل من حماس وفتح: بات واحدا.
والغريب في أمر الجماعة الأخوانية المستعربة- أقصد حماس، أنها اختزلت مسألة تعريف فلسطين وقفًا إسلاميًا، واستبدلت مشروعها بمشروع فتح، التي أدينت عليه منذ إعلان الجزائر في العام 1988، أي أن حماس أعلنت قبولها بدولة مستقلة على حدود الرابع من حزيران العام 1967.
الجماعة المستعربة إياها- حماس، تجرّأت على النيل من قدسيّة الدم الفلسطيني بإقدامها على الإنقلاب الدموي في العام 2007، بذريعة اسمها: محمد دحلان والأمن الوقائي، فقتلت من قتلت وجرحت الكثيرين وزجّت في سجونها... المئات. إضافة إلى استيلائها على مقار حركة فتح وأملاكها، وصادرت القصور الرئاسية ومؤسسات السلطة الوطنية ومنازل أبناء حركة فتح.
ما الذي يحصل الآن بين حماس ودحلان؟ وما هو الدور المشبوه لإحدى الدول الخليجية الداعمة بالمال والسياسة للأخير- أي دحلان، والمستعدة لتغطية كلفة المصالحات التي يترتب عليها دفع أموال كثيرة لإنجازها... بمعزل عن أي دور للسلطة الوطنية الفلسطينية؟ حماس تقتل والديّة يدفعها آخرون. منذ الانقلاب المشؤوم وحتى الأمس القريب، اعتبرت حماس أن مشكلتها الأساسية مع دحلان، فما الذي يمنعها من التصالح مع السلطة؟ وإذا كان دحلان هو العدو الأول لحماس، ما الذي يبرر بقاء الانقسام، كون السيد دحلان خصم لفتح والسلطة أيضا؟ ثم ما معنى محاولة دحلان غسل ذمة الانقلابيين المجرمين من دم ضحاياهم أبناء فتح وغزة... وما معنى محاولة دولة بعينها المبادرة إلى المساعدة المادية لذلك؟
والأغرب الأعجب، عند سماعنا ما يصرّح به مشير المصري وسامي أبو زهري. الأول اعتبر أن "أزمة المسجد الأقصى مفتعلة من قبل حركة فتح للتغطية على ما يعانيه وضعها الداخلي..." فيما قال أبو زهري: تصريحات "عباس" لن يكون لها معنى الا برفع العقوبات عن غزة وإطلاق يد المقاومة في وجه الاحتلال. الرئيس عباس يحاصر غزة!!!!!.
من جهتها حكومة الاحتلال حمّلت حركة فتح مسؤولية ما يحدث في القدس. ورأت أن خطاب الرئيس محمود عباس هو إشارة لانتفاضة شعبية جديدة بقيادة حركة فتح في القدس.
كما أن إعلام الاحتلال اعلن أن قيادات حركة فتح حرّضت وشاركت في مواجهات قلنديا كمحمود العالول- نائب الرئيس ومستشاره سلطان أبو العينين، فيما آخرون حرّضوا على أحداث القدس.
لا ضرورة لذكر بعض التصريحات والتعليقات السخيفة التي "تقافزت" هنا وهناك. بل ينبغي التأكيد على مسألة غاية في الأهمية: المتشدقون من حماس، الذين يملكون حميّة لا تلين في مقاومة الاحتلال هم الآن امام فرصة تاريخية للمشاركة في انتفاضة المسجد الأقصى. كما لا ندري لماذا لم تتأهب الكتائب القسامية في غزة تلبية للواجب الشرعي المقدّس... كأن غزة تقع جنوبي رأس الرجاء الصالح.
 الرئيس محمود عباس يقول للجميع من خلال صفته وما يمثّل: إن البوصلة هي القدس وفلسطين... تعالوا لنتوحد من أجل شعبنا وقضيتنا. بالطبع، كأنه يتكلم في المطحنة... لأن أولويات واهتمامات حماس مختلفة وفي اتجاه آخر تماما.
هنا لا بد من تسجيل التالي: يتضح أن هناك تقاطعا واضحا بين مواقف والاعيب وممارسات سلطة الاحتلال وحماس- لا تتدخل النوايا بالأمر، بل النتائج. هناك تقاطع متقارب وهادف الى حد ذوبان مساحة السؤال أو محاولة تبرئة حماس من دونيتها والشك بحقيقة انتمائها. ماذا عن تقليل حماس أهمية ما حصل ويحصل في القدس؟ هل افتعلت حركة فتح الحدث؟ بالطبع بادرت فتح وأعطت للقضية أهميتها القصوى، ودفعت من دماء مناضليها وحريتهم ثمنا كبيرا... لأن فتح على قناعة بأهمية ووجاهة واستراتيجية الحدث.
نتفهم تكتيكات العدو الاعلامية، ودأبه على الدسّ والتحايُل من أجل التشويش على انتفاضة المسجد الاقصى. ونتفهم دأبه في التمادي بالكذب والخداع بغية إيقاع الرأي العام الفلسطيني في متاهة التشكيك بقيادته وأهدافها الوطنية. فيما لا نتفهّم أبدا النزق الخطابي الذي تتمادى فيه اكثرية قيادة حماس. وهنا لا بد من الاشارة إلى خطاب رئيس حماس اسماعيل هنية، الذي أدى خلاله دور خطيب الجامع، لا السياسي المسؤول عن الكتائب والعراضات وأدوات المنفخة والتهديد والوعيد.
وبما أننا امام مفارقتين متباعدتين لجهة الأولويات والخيارات، فإن مسألة الدعوة إلى المصالحة الوطنية الفلسطينية بالنسبة لحماس، لن يكون لها فرصة للنجاح أو لاختراق التباعد الذهني المشدود إلى غريزة الاستعداء والاستمرار في الدقّ على هذا الوتر من أجل تكريس مفهوم استحالة المصالحة لتأبيد الانقسام.
يبدو أن مشاريع تفكيك البنية الجغرافية والسكانية للشعب الفلسطيني تجذب الخائبين ممن لا يتورّعون عن الاسهام بدور الأداة في هكذا مؤامرات داهمة وخطيرة. وبما أن حماس تسترشد وتقتدي وتلتزم الاشارات التركية- القطرية، وبناء عليه تتواصل بواسطة سراديب تلك الدولتين مع إدارة أميركية حاسمة بشأن تبديد الكيانية الفلسطينية وتحقيق المسعى الاسرائيلي الدائم بالقضاء على مسألة حل الدولتين.
يبدو أننا أمام محطة قاسية وثقيلة فيما يخص العلاقات الفلسطينية الداخلية وأخرى أكثر سهولة- رغم كلفتها- كونها تتصل بالصراع العميق والأصلي من أجل الحرية والاستقلال.
خطاب الرئيس محمود عباس وضع النقاط على الحروف، لجهة امتلاك القيادة الفلسطينية أوراقا عدة نضالية. لجهة القدرة على قلب الطاولة فوق رؤوس الخانعين والمطمئنين على سلاسة اوضاع المحتلين ونموذجيتها مقابل حالة التفجر غير المسبوقة التي يواجهها أكثر من بلد عربي.
قد تكون القيادة الفلسطينية أجرت اتصالاتها مع بعض المسؤولين العرب، وهذا أمر طبيعي، لأن مسؤولية ادارة الاقصى كانت ولم تزل بيد الدولة الاردنية. ولاستثارة ما يمكن استثارته من مواقف ودعم عربيين. إلا أن بوصلة الاجتهاد تشير إلى انزعاج في بعض الاوساط العربية التي بنت سياساتها على معادلات مقلوبة واعتبارات غاية في الغرابة.
والأهم من ذلك يبدو أن انتفاضة الاقصى تشوّش وتؤثر على مناخ السياسة العربية الحالي، نظرا لانشغالات عميقة ببعد صدامي لم تنضج قواعد تسوياتها بعد. لكن الجانب الفلسطيني أراد أن يقول للعرب: كفى استهتارا صهيونيا بالمبادىء والقوانين التي ترتكز إليها الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وكفى صمتا على تمادي سلطات الاحتلال بجرائمها المادية والمعنوية تجاه هذا الشعب. كما أن جزءا أساسيا من الانتفاضة يرد على مسألة اعتبار سلطات الاحتلال أن القدس باتت تحصيل حاصل بالنسبة إليها. الانتفاضة الحالية تقلب معادلة أبدية احتلال القدس، وتعيدها إلى دائرة كونها فلسطينية كانت ولم تزل... وسوف تبقى عاصمة الدولة الموعودة.
خيرا فعلت حركة فتح والسلطة الوطنية حين إلتقطت بجدية مطلقة قضية المسجد الأقصى وتم تفعيلها، لأنَّ الأمر مرتبط بجوهر الصراع ومركزيته. ولأنه أوصل الرسالة المطلوبة للعدو بأن كيانه المنتفخ لا يمكن أن يبقى بمنأى عن الاهتزاز. لن يبقى الاحتلال الوحيد في العالم الذي لا يدفع كلفة احتلاله. وإذا حاول البعض اتخاذ الامر ذريعة لتبرير تقاعسه، أو لانضمامه إلى معسكر آخر يمثل مصالحه أكثر... فإن فلسطين لا تقبل ولا تحتمل أنصاف الانتماءات... هي فلسطين الثابت الدائم في الصراع، لأنها مركزه وعصبه، ولأن العقيدتين الصهيونية والفلسطينية- العربية الأصيلة تخوضان حرب وجود في مواجهة بعضهما.
لا يمكن أن يتراجع الفلسطيني عن حقه... فالمعادلة يجب ان تنقلب بحيث تصيب الصدمة الوعي الصهيوني... فقط.