نحن اليوم قد أصبحنا، زمنياً على الأقل، في نطاق الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية. سبعون سنة؟ إنها حقبة زمنية مديدة طُحنت فيها أجيال فلسطينية وعربية، وتقلّبت قضية فلسطين في أثنائها تقلبات شتى، وتغير العالم العربي في معمعانها كثيراً بعدما شهد ما لا يقل عن سبعين كارثة سياسية لا تقل في آثارها عن نكبة 1948. وليس هناك أي ضير في أن نفتتح نقاش الذكرى السبعين للنكبة ونحن ما زلنا في الذكرى المئة لوعد بلفور: إنها توافقات التاريخ ومصادفاته المرة. فقد شكلت النكبة حدثاً خطيراً ومفصلياً وانقلاباً حاسماً في تاريخ فلسطين الحديث، وفي تاريخ المشرق العربي أيضاً. وأسس هذا الحدث الخطير وعياً جديداً يمكن أن نطلق عليه اسم "وعي النكبة". والنكبة ليست مجرد ذاكرة فحسب لأن تاريخ فلسطين ليس مجرد تاريخ نبحث عنه في الوثائق والتقارير وبطون الكتب وحدها، بل هو تاريخ حاضر ما برح يجري بيننا وحولنا وأمام عيوننا، وشاهدُ ذلك هو الشتات الفلسطيني الذي ما زال يتوسع وينتشر سنة بعد سنة. والتاريخ الفلسطيني المعاصر متصل مباشرة بالتاريخ الصهيوني؛ فثمة صراع على الأرض نفسها، وعلى السيادة فيها، وهو صراع على التاريخ القديم والحديث وصراع على رواية ما حدث في سنة 1948 وصراع على الرموز ، وعلى ما يحصل في القدس يومياً. وبهذا المعنى، فإن من المحال فهم النكبة الفلسطينية إلا في  إطار الاستعمار الكولونيالي في القرن العشرين، ولا يمكن النظر في مصير فلسطين اليوم إلا في بُعدها الانساني كقضية سياسية، وفي سياق التجسيد السياسي للحرية والعدالة، أي حق تقرير المصير.
كانت نكبة فلسطين في سنة 1948 حافزاً مهماً للفكر القومي العربي كي يعيد النظر في رؤاه الأيديولوجية والسياسية، ويعيد،  في الآن نفسه، فحص خلاصاته الفكرية. وكان قسطنطين زريق أول مَن استخدم مصطلح "النكبة" حين أصدر بعد ثلاثة أشهر فقط على إعلان قيام دولة اسرائيل، كتابه التأسيسي "معنى النكبة". بيد أن زريق لم يكن مؤرخاً للنكبة بقدر ما كان ناقداً لمقدماتها، وباحثاً عن أسبابها التي أرجعها إلى التأخر الحضاري العربي، ومحذراً كذلك من أخطارها. ورأى أن التغلب على النكبة إنما يكون في السير في سبيلين: الانخراط في حضارة العصر، وبناء كيان قومي عربي يقف في وجه الكيان الاسرائيلي، وهو ما لم يتحقق على الاطلاق.
في هذا الحقل السياسي كان هناك مؤرخون فلسطينيون عاصروا النكبة وكتبوا وقائع ما جرى أمثال عارف العارف ومحمد عزة دروزة ومصطفى مراد الدباغ وسامي هداوي وإميل الغوري وأكرم زعيتر وإميل توما وعبد اللطيف الطيباوي ونقولا زيادة وغيرهم كثيرون بالطبع. وكان هناك أيضاً مؤرخون فلسطينيون لم يعاصروا النكبة مباشرة لكنهم استغرقوا في بحث تفصيلاتها ونتائجها أمثال وليد الخالدي وعبد الوهاب الكيالي وبيان نويهض الحوت وأنيس صايغ وخيرية قاسمية ورشيد الخالدي وآخرين. وبعض هؤلاء سجلوا يومياتهم (محمد عزة دروزة وأكرم زعيتر على سبيل المثال)، وآخرين دوّنوا مذكراتهم أمثال الحاج أمين الحسيني وفوزي القاوقجي وموسى العلمي ومحمد طارق الإفريقي وإميل الغوري وخليلي البديري وعزت طنوس وعبد الحميد السائح وعوني عبد الهادي وبهجت أبو غربية وحسين فخري الخالدي ورشيد الحاج ابراهيم.
نحن، إذاً، إزاء أجيال متعاقبة من المؤرخين الفلسطينيين الذين راكموا كتابة تاريخية متعددة الجوانب، الأمر الذي يجعلنا نشير إلى أن المكتبة العربية تحتوي المئات من الكتب المهمة في هذا الميدان. لكن هذا الركام من الكتابة التاريخية عن فلسطين ونكبتها يحتاج إلى إعادة درسه بين مرحلة وأخرى، ومساءلته أيضاً عن المحصلة العلمية والمعرفية، ولا يستوي ذلك إلا بجهد المؤرخين الفلسطينيين والعرب الحديثين الذين اطلعوا على مناهج البحث العلمي الجديدة، وعلى الطرائق المعاصرة في التقصي والتحقق والوصول إلى الوثائق والمصادر الحاسمة. لأن التاريخ، كعلم، قابل كما هو معروف للتوظيف الأيديولوجي والسياسي. وعلى سبيل المثال فإن الاستناد إلى التوراة في كتابة تاريخ فلسطين القديم يجعل الرواية التوراتية عن فلسطين القديمة صحيحة، ويجرد الفلسطينيين من تاريخهم وأرضهم وهويتهم. وكذلك الاستناد إلى الروايات الدينية التي تعيد بناء مدينة القدس إلى الإرادة الربانية، وهي شأن فوق بشري يجعل التفكير الميتافيزيقي بديلاً من التفكير العلمي. وكذلك الكتابة عن تاريخ فلسطين في المرحلة العثمانية التي كثيراً ما اتسمت بنزعتين أيديولوجيتين واضحتين وصريحتين: النزعة القومية العربية التي رأت في الحكم العثماني وبالاً على العرب، والنزعة الاسلامية التي نظرت إلى زوال الخلافة العثمانية على أنها أمر وبيل.
يقول أرنست رينان "إن صناعة وطن تقوم على تزوير تاريخه الخاص"، وهذا ما فعله الصهيونيون في فلسطين. الآن، كيف يمكن إنشاء التطابق بين الروايات المؤسسة للهوية الوطنية الفلسطينية الحديثة وبين حقائق التاريخ؟ ومن جهة أخرى كيف نجرد تاريخنا القريب من الوقائع غير التاريخية ومن حكايات بطولات الأجداد... الخ؟ وهل يمكن كتابة تاريخ صحيح لفلسطين قبل أن يكون لفلسطين حدود جغرافية معلومة وتخوم مرسومة؟ وفي هذا النطاق المعرفي لا بد من التساؤل: متى بدأت الهوية الوطنية الفلسطينية تتبلور؟ وما هي عناصر تكوين تلك الهوية، خصوصاً أن فلسطين لم تكن، في يوم من الأيام، وحدة إدارية وسياسية قائمة بحدودها التي نعرفها اليوم؟ وبهذا المعنى ثمة سؤال آخر: من أي زمن يبدأ تاريخ فلسطين الحديث؟ ومتى يبدأ حقاً تاريخ النكبة؟ وفي معرض الإجابة ثمة مَن يعيد ظهور شكل من أشكال الكيانية السياسية الفلسطينية إلى سنة 1873 حين فصلت السلطات العثمانية لواء القدس عن ولاية سوريا، وجعلته سنجقاً مرتبطاً باسطمبول مباشرة. وثمة من يعتقد، وهو الراجح لدينا، أن الهوية الوطنية الفلسطينية لم تنشأ إلا في غمار ثورة 1936، وكانت بداياتها مع تأسيس الأحزاب الحديثة في أوائل الثلاثينيات من القرن المنصرم. ومهما يكن أمر الأجوبة المتعددة والمختلفة في هذا الشأن، فهل يمكن كتابة تاريخ النكبة في نطاق فلسطين تحت الانتداب البريطاني من دون أن تشمل الكتابة تاريخ بلاد الشام على أقل تقدير؟ وهل في الامكان كتابة تاريخ شامل لفلسطين في ما لو جمعنا جمعاً ترتيبياً تواريخ المناطق إلى بعضها، وهي التواريخ التي كتبها مؤرخون لامعون مثل "تاريخ بئر السبع" و"تاريخ غزة" و "تاريخ عسقلان" و "تاريخ القدس" (عارف العارف)، فضلاً عن "تاريخ جبل نابلس" (إحسان النمر)... وهكذا.
كيف عالج المؤرخون الفلسطينيون والعرب النكبة الفلسطينية والموضوعات المتصلة بها أو المتشعبة منها؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يتبعه تسليط الضوء نقدياً على "النكبة في الكتابات التاريخية العربية"، لأن ما جرى في سنة 1948 من وقائع ثابتة كالقتل والتدمير والترحيل والاستيلاء على الأرض لا يجادل فيه أحد اليوم، حتى أن كثيراً من المؤرخين الاسرائيليين الجدد كشفوا ما لم يكن يعرفه الفلسطينيون أنفسهم، أمثال إيلان بابيه في كتابيه "التطهير العرقي في فلسطين" و "البيت الأحمر"، وكذلك توم سيغف في كتابه "الاسرائيليون الأوائل"، وكذلك تيدي كاتس الذي كشف في سنة 2000 عن تفصيلات مذهلة وغير معروفة عن مجزرة الطنطورة. الغاية إذاً هي اكتشاف ديناميات النكبة التي وصلت إلى ذروتها في عام 1948، لكنها ما برحت تتجدد في كل مرحلة، وتتنكر، حتى اليوم، في أسماء مبتكرة، مثل العداء السياسي للفلسطينيين في أوساط عربية متكاثرة، ومثل العنصريات المتعددة التي فتكت بالفلسطينيين في بعض الأماكن العربية، وكذلك الجُدُر العالية التي ارتفعت بين عرب المشرق العربي والفلسطينيين بعدما كان الجميع يعيشون في دولة واحدة، ويكتبون تاريخاً واحداً، وها هم العرب في معظمهم، يتفرجون اليوم على نضال الفلسطينيين في القدس وجوارها بلا مبالاة جراء نكباتهم أيضاً. واللافت في هذا الحقل المعرفي أن كثيراً من المصادر ما برح غير متاح حتى بعد سبعين سنة على النكبة مثل محفوظات الجيوش العربية التي شاركت في حرب 1948 كالجيش السوري والجيش الأردني، علاوة على الجيشين المصري واللبناني. واللافت أيضاً ان الاستناد إلى الوثائق الصهيونية في كتابات المؤرخين العرب ظل ضعيفاً إلى حد كبير ربما لعدم توافرها بسهولة. غير أن بعض الباحثين الفلسطينيين من فلسطينيي 1948 ينهمكون اليوم في التفتيش في الأرشيف الصهيوني عن قضايا تعزز الرواية الفلسطينية عن النكبة، وتكشف بعض المسكوت عنه، وهو ما يعزز الأمل في تطوير "علم النكبة" بحسب ما دعا إليه قسطنطين زريق قبل سبعين سنة كي يصبح هذا العلم وعياً يساهم في صمود الفلسطينيين وبقائهم فوق أرضهم.