افتتاحية مجلة "القدس" العدد 339 لشهر تموز 2017
بقلم: الحاج رفعت شناعة
إنَّ التصعيد في المسجد الأقصى، وبوّاباته، وباحاته الذي مارسَهُ الاحتلال الإسرائيلي ضدَّ المسلمين، واستهدافه أهلَ القدس، وإقفال المداخل بوجه مَن يريد دخول الأقصى للصلاة والعبادة لم يأتِ من فراغ، وإنَّما هي خطوةٌ سياسةٌ تصبُّ في المشروع الصهيوني المرسوم، والمتسارِع الخطى بفعل التطورات الإقليمية والدولية، والاستعجال الإسرائيلي لقطف ثمار ما نتجَ عن حروب ما سمّوه الربيع العربي، والذي أسهم في حقيقة الأمر بتدمير أبرز المدن الصناعية، والتاريخية، والسياحية في سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، ومصر.
إنَّ الجانب الإسرائيلي تجرَّأ على تدنيس الأقصى، وأخذَ قراراتٍ واضحةً بتركيب بوابات إلكترونية على أبواب المسجد التاريخي، وإجبار المصلين على الخضوع للتفتيش والرقابة، تجرَّأ على ذلك لأنَّه كان يدرك مدى الانحياز الأميريكي لإسرائيل ومشروعها على الأراضي الفلسطينية، ونتنياهو صاحب القرار الأخير يعتبر أنَّ العديد من العقبات العربية وغير العربية قد أُزيلَت من طريقه، وأنَّه قد حصلت عملية ترويض لمواقف الكثيرين من القادة في المنطقة، الذين أصبحوا اليوم يبحثون عن سلامة عروشهم وأنظمتهم، وليس عن مصير الأُمَّة. وهذا ما وجدناه مؤخَّراً مع بداية تسلُّم ترامب الحكم، وعقد المؤتمرات في الخليج، وتشكيل جبهة مواجهة العدوان الإيراني، وحلفاء إيران، بينما الجانب الإسرائيلي ينتظر المكافأة والجائزة الكبرى، وخاصّةً الضغط الأميريكي على العرب للبدء في تطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل التفكير بالانسحاب من الأراضي المحتلّة.
ما فعله الجانب الإسرائيلي إذاً لم يكن خطوةً في الفراغ، وإنَّما هو أراد أن يؤسِّس لتفعيل مشروعه الأساسي، وهو تهويد الأقصى، واستيطان القدس، وهذا هو الهدف الذي يريد الوصول إليه حتى يُطهِّر القدس الإسلامية والعربية من أهلها التاريخيين أبناء الكنعانيين واليبوسيين.
إنَّ حكومة نتنياهو غامرت وتحدَّت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهي التي نصحتها بالتريُّث لأنَّ الأمور لم تنضج بعد، لكنَّ نتنياهو استعجل الأمر لتنفيذ الخطة، مُستفيداً من غموض الموقف الأميريكي باتجاه عملية السلام، وباتجاه القدس تحديداً، وتمسُّكه بنقل السفارة الأميريكية إلى القدس كعاصمة لإسرائيل، ورفض ترامب إدانة أيِّ سلوك إسرائيلي، وإنَّما هناك تنسيق على مستوى عالٍ بين البلدَين باعتبار واشنطن معنيّة بأمن الاحتلال الإسرائيلي، وحماية الكيان الصهيوني، ودعمه اقتصاديًّا.
والعامل الثاني الذي دفعَ نتنياهو إلى الاستعجال والمغامرة، هو الموقف العربي المتردِّد في مواجهة الكيان الإسرائيلي بعد بناء العلاقات المميَّزة بين الولايات المتحدة والدول العربية التي ضحَّت بالمليارات، من أجل أن تضمن الولاياتُ المتحدة أمنَها، وخياراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، ولذلك أية ردود فعل عربية احتجاجية ستكون محدودةً، وليست ذات تأثير بوقف مشروع التهويد والاستيطان.
أمَّا العامل الثالث الذي شجَّع نتنياهو في خطوته الإجرامية بحقِّ القدس ومقدَّساتها، فهو أنَّ الدول الإسلامية ليس بإمكانها أن تأخذ مواقف اعتراضية شديدة ومؤثّرة، فمعظم هذه الدول يعترف بوجود إسرائيل، وهناك علاقات اقتصادية وعسكرية وأمنية بينهم. وحتى الدول التي لا تعترف بإسرائيل، فهي ليست في حالة حربٍ معها، ولا هي على استعداد لأخذ مواقف متقدّمة في المواجهة، ورفع وتيرة التصدي لحماية الأقصى.
أمَّا العامل الرابع، فهو أنَّ المؤسّسات الدولية بشكل عام عادةً تُعطي الفلسطينيين حقَّهم، وتُدين أيَّ اعتداء عليهم، لكن عملياً فإنَّ هذه المؤسّسات الدولية تتردَّد في معاقبة الجانب الإسرائيلي خوفاً من ردود الفعل الأميريكية والصهيونية. ولعلَّ مجلس الأمن هو المؤسّسة الدولية الوحيدة التي تمتلك حقَّ فرض العقوبات عسكرياً وأمنياً وسياسياً على الدول المعتدية. لكن وكما جرت العادة فإنَّ الولايات المتحدة دائماً تستخدم حق النقض (الفيتو) ضدَّ أي قرار يُدين إسرائيل. ولذلك فإنَّ مشاريع قرارات قُدِّمت لمجلس الأمن كي يعتمدها من أجل حماية الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلّة من البطش الإسرائيلي، ومن الحروب المدمرة، ومن الاعتداءات المتتالية على الوجود الفلسطيني، إلّا أنَّ (الفيتو) الأميريكي كان باستمرار يُدمِّر أيَّ مشروع قرار يُنصف الفلسطينيين.
أمَّا العامل الخامس فهو العامل الفلسطيني، والذي هو في واقع الأمر المرتكَز الأساس في الصراع ضدَّ العدو الصهيوني. والبُعد الفلسطيني في هذا الصراع، وفي ظلِّ غياب التأثيرات والضغوطات الأخرى يجب أن يؤدي دوره المركزي المؤثِّر والقادر على إِجهاض المؤامرات، وإحباط الخُطَط المعادية، ومواجهة التحديات.
وهنا يكمنُ بيتُ القصيد. أي هنا الموقع الدفاعي الأمامي، وعليه الاعتماد في المواجهة، وعلى مدى صلابة وقوة وتماسك هذا الموقع الأمامي تتحدَّد قدرةُ الشعب الفلسطيني على إفشال المؤامرات، وحماية الإنجازات الفلسطينية، وتنفيذ البرنامج السياسي الفلسطيني.
انطلاقًا من العامل الخامس، ولأنَّه هو الأساس، وهو الجوهر، لابدَّ أن نتحدَّث حول القضايا الجوهرية، وأن نضع النقاط على الحروف، لأنَّ التنظير لا يحل المشكلة، واللّف والدوران لا يوصل إلى الحقيقة، وإخضاع الجمهور دائماً لشلّالات إعلامية من الكلام الملفَّق، والـمُغاير للحقيقة، إضافةً إلى ما تقوم به القنوات الفضائية من حملات إِعلامية لصالح هذا الطرف أو ذاك، هذا كلُّه لن يفيد أصحاب المشاريع الإقليمية، لأنَّ هبَّة الأقصى كشفت المستور، ووضعت الجميع تحت المجهر، والجماهير ترى بكل عيونها، وتسمع بكل آذانها، ولا يستطيع أحدٌ خداعها، وساحات الأقصى كانت شاهدةً على ما جرى. وهنا نؤكد ما يلي:
أولاً: إنَّ استمرار وجود حركة "حماس" على رأس الانقسام في قطاع غزة لم يعد مقبولاً، ولا مُقنعاً، لا إسلامياً، ولا وطنياً، ولا سياسياً، وهو مرفوضٌ من الشعب الفلسطيني. فكلُّ مبررات حركة "حماس" غير مقبولة وغير مقنعة، وقد أسقطتها الأيام بل العشرُ سنوات المتواصلة التي عاشت فيها إمارة غزة الحمساوية على حساب وحدة الوطن الفلسطيني. فاقتطاعُ غزة من الوطن بقوةِ الانقلاب السابق خدَمَ حركة "حماس" كتنظيم حزبي، وليس كتنظيم وطني. فالجميع كان ينتظر وجود "حماس" في هبَّة الأقصى كقوة شعبية، وكجزءٍ من الشعب الفلسطيني، وليس كقوة تعتبر أنَّ عدوَّها رئيسُ السلطة الوطنية، الذي سبق له أن كلَّفهم بتشكيل الحكومة الفلسطينية بعد أن التحقوا طوعاً بأوسلو، ونجحوا في الانتخابات التشريعية، ثُمَّ انقلبوا على الرئيس، وأخرجوه من قطاع غزة، هو ومَن معه.
لقد كان الرئيس أبو مازن قد دعاكم ومن باب الحرص والمصير الواحد أن تتراجعوا عن الانقسام، لأنَّ اللعبة أصبحت مكشوفةً، ولأنَّ الوقت ليس لصالحكم، والهجمة على شعبنا ومقدّساته تزداد شراسة وإجراماً، وإصرارُكم على البقاء هناك في قطاع غزة يعني اختصار الوطن كلّه في قطاع غزة، وانتظار امتيازات هناك لا تسمن ولا تُغني من جوعٍ على حساب الكلِّ الفلسطيني.
ثانياً: نُذكِّر الاخوة في حركة "حماس" أنَّ ساحة الصراع هي في القدس والضفة الغربية، وهناك ستندلع المواجهات والمعارك، لأنَّ الخطر الداهم هو على مصيرنا، ودولتنا المستقلة، وعاصمتنا القدس الشرقية هناك، وليست في قطاع غزة، فإسرائيل انسحبت من القطاع لأنَّها تريده ساحة معركة داخلية فلسطينية فلسطينية، والرئيس أبو مازن يرفض ذلك ويدعوكم إلى الوحدة الوطنية، وإعادة قطاع غزة إلى الوطن الأم، إلى الضفة الغربية والقدس، تمهيداً للمصالحة، ولتعزيز الجبهة الوطنية الفلسطينية الموحَّدة ضد المشروع الصهيوني، لأنَّ ما هو قادم على شعبنا خطير ويهدِّد مصيرنا، وآن الأوان أن نقول جميعاً لنتنياهو: يوجد ممثِّل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني هو "م.ت.ف"، وهناك رئيس ومرجعيّة للشعب الفلسطيني منتخَب من شعبه هو الرئيس أبو مازن، وهناك سلطة واحدة وحكومة واحدة، وشعب واحد، ومصير واحد، حتى نقطعَ الطريق على كلِّ مَن يحلم بتقسيم الشعب الفلسطيني.
ثالثاً: إنَّ مكانكم الطبيعي إخوتَنا في حركة "حماس" هناك إلى جانب الرئيس أبو مازن، وعلى بعد كيلو مترات من القدس، فالرئيس أبو مازن قاد المعركة، ومعه مختلف القوى الوطنية والإسلامية والدينية والاجتماعية، وقد أعطى تعليماته لشعبه بوضوح وجرأة ودون تردد، فالقدس وأقصاها أمانةٌ في أعناقنا، والمعركة سنقودها من أجل الاستقلال والحرية، والسيطرة على الأقصى مهما كانت النتائج والصعوبات، فهذه هي الأرض المباركة.
رابعاً: كفى شتائم ومسبّات وتحريضاً على الرئيس أبو مازن، أَسكِتُوا ناطقيكم الرسميين لأنَّ ذلك السباب يُسيء إلى تاريخكم وشهدائكم الذين نحترمهم، الرئيس أبو مازن من مدرسة الرمز ياسر عرفات، وهُم القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني.
صحيحٌ أنَّ الرئيس أبو مازن وقَّع على اتفاق أوسلو، والذي سمَّاه أبو عمار الخيار المر، لأنَّ الخيارات آنذاك كانت كلُّها مرة، واختارت قيادة حركة "فتح" أن تدخل إلى أرض فلسطين، وأن تكون وَجهاً لوجه ضدَّ الاحتلال، وحركة "حماس" التحقت بخيار أوسلو العام 2005 برِضاها، وخاضت الانتخابات التشريعية. فلماذا التحقت حركة "حماس" بأوسلو؟ ولماذا خاضت الانتخابات؟ ولماذا نجحت؟ ثُمَّ لماذا انقلبت على رئيس دولة فلسطين؟ ولماذا كرَّست الانقسام على مدار عشر سنوات؟!!
ولماذا الهدنة اليوم مع العدو الإسرائيلي لمدة خمس عشرة سنةً، علماً أنَّ العدو الإسرائيلي شنَّ ثلاثة حروب على قطاع غزة، وقد دمَّر أحياء القطاع، وقتل الآلاف، وجرح عشرات الآلاف، وعاش القطاع الصامد النكسة بعد النكسة، علماً أنَّ هناك هدنة، وممنوعٌ على الجميع أن يُطلقوا الصواريخ.
فإلى متى ستبقى حركة "حماس" متمترسةً هناك في قطاع غزة، ومعها أبو فادي محمد دحلان، مع استمرار هذا الواقع. علمًا أنَّ الكيان الإسرائيلي يقول علنًا إنَّ مشروعه السياسي هو إقامة كيانٍ للفلسطينيين في قطاع غزة مرتبطاً بمصر. أمَّا الضفة فليس فيها أي شيء اسمه دولة فلسطينية، فهل ستكون حركة "حماس" المعروفة بتاريخها المقاوم شاهدةً على تصفية القضية الفلسطينية، وخاصّةً قضية اللاجئين هناك في قطاع غزة ومساحة من سيناء.
الرئيس أبو مازن لا يخدعُ أحداً. فقد كان قرارُه واضحاً منذ بداية الهبَّة الشعبية، وهو مواجهة الاحتلال، ورفض إجراءاته، والتصدي لها، لأنَّ هناك مؤامرة سياسية كبيرة. أمَّا بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي فقد أبلغهم علناً بأنَّ القيادة الفلسطينية قرَّرت وقفَ العلاقات معه، أي وقف التنسيق الأمني، حتى يُعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 14/7/2017.
وهذا يعني أنَّه في المراحل المتقدِّمة ستكون القرارات صارمةً، وبحجم التطورات، ونحن في حركة "فتح" نفكر دائمًا بمصالح شعبنا أولاً، وعلينا أن نُعدَّ العُدّة، وأن نُجسِّد وحدتَنا الوطنية، وأن نُصلِّب جبهتَنا، فمعركةُ القدس طويلة، والشعب الفلسطيني يمتلك الوعي والجرأة وتحديد الخيارات التاريخية الصعبة، بعيدًا عن التدليس، والتضليل، والتعمية، وتزوير الحقائق. ونُذكِّر الجميع بأنَّ الرمز ياسر عرفات عندما دخل قطاع غزة العام 1994، قال له الإسرائيليون خُذ قطاع غزة وأصنع منه دولةً لك، فقال أبو عمّار للإسرائيليين: غزة – أريحا أولاً، أي أنَّ دولتنا موحَّدة بالضفة وغزة. ورفضَ العروض الإسرائيلية منذ بداية اتفاق أوسلو، وما زلنا تشدّنا دائماً أهدافُنا الوطنية الشاملة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها