يشير معظم المحللين والخبراء في السياسة الأميركية إلى أن واحداً من أسباب فشل الديمقراطيين في الانتخابات، بعد تركيز ترامب على الأوضاع الاقتصادية، يكمن في انحياز الإدارة الديمقراطية وشراكتها في حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، حيث أفقدهم ذلك أصوات الجاليتين العربية والإسلامية، بالإضافة للأجيال الشابة، بمن فيهم قطاع واسع من مؤيدي الديمقراطيين، والذين قادوا انتفاضة الجامعات الأميركية على مدار العام الدراسي الماضي.

وكانت إدارة بايدن شريكاً في الحرب على قطاع غزة، دون أن يأخذ نتنياهو أياً من الاقتراحات الأميركية، أو مراعاة مصالحها في المنطقة بعين الاعتبار، حيث كان بايدن نفسه سرعان ما يتراجع عن مواقفه المعلنة، ويبلع لسانه عندما تدير حكومة الاحتلال ظهرها لهذه المواقف، كما حدث في مبادرته للاتفاق على صفقة رغم أنها تحولت إلى قرار صادر عن مجلس الأمن. ذلك وغيره يؤشر إلى أنه من غير المتوقع أن تتمكن الإدارة، أو ربما أنها لا ترغب في إحداث أي اختراق في المدة المتبقية لها حتى تنصيب ترامب في بداية يناير القادم.

السؤال الجوهري الذي يهيمن اليوم على كل المهتمين في قضية الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بأنه وفي ظل الأجندة التي باتت تتضح معالمها لمرحلة ترامب القادمة سواء المتصلة بالقضايا الداخلية، وفي مقدمتها الاقتصاد الأميركي، أو الحرب الأوكرانية التي وعد بحلها، بالإضافة لملفات الصين وكوريا الشمالية والحرب السودانية، هو: هل سيتمكن ترامب من إعطاء الأولوية لفرض وقف الحرب ضد قطاع غزة، والتوصل لاتفاق ينهي الحرب الإسرائيلية على لبنان؟ وما هو الثمن الذي سيسعى لتحقيقه من ذلك ؟.

وبما يخص الحرب على لبنان، فمن الواضح أن ملامح اتفاق تتبلور في الأفق، ويبدو أن مختلف الأطراف ذات الصلة تسعى إلى ذلك، بما فيها إسرائيل التي تواجه مقاومة جدية من اللبنانيين، بعد أن تمكنوا من امتصاص آثار الضربة الموجعة التي وجهها لهم العدو، وأعادوا تنظيم صفوفهم، وأعادوا بناء قواعد السيطرة والقيادة على الصعيدين العسكري والسياسي. ولعل تكامل أدوار الحكومة اللبنانية ورئيس البرلمان نبيه بري، ورغم تناقضات الخارطة السياسية في لبنان وهشاشة وضع الدولة، قد لعب دوراً في فتح مثل هذه الثغرة التي قد تنهي الحرب، وإن كان وفق ترتيبات جديدة فيما يتصل بتطبيق القرار 1701.

أما على صعيد حرب الإبادة الإسرائيلية على شعبنا في قطاع غزة، والتي لم يعد خافياً أنها مكون أساسي من مخططات حرب التصفية التي تواصل حكومة الاحتلال تنفيذها، لا سيما لجهة ما يعرف بخطة الضم والحسم في الضفة الغربية. فيشير المراقبون إلى أن إدارة ترامب ستنخرط في جهود الوقف العاجل للعمليات العسكرية في القطاع، وهذا ما تدركه حكومة نتنياهو، ولذلك فهي تسابق الزمن لفرض مخططاتها على القطاع، لجهة استكمال التطهير العرقي لمنطقة الشمال وفق ما يُسمى بخطة الجنرالات، والتي من الممكن أن تشمل مدينة غزة حتى محور نتساريم، وحشر أهالي القطاع في منطقة لا تتجاوز نصفه، حيث تسعى لتنفيذ خطة مشابهة في المناطق الحدودية لمحافظة رفح، دون أن تتخلى عن مخططات التهجير بجعل القطاع بأكمله منطقة غير قابلة للحياة، وتحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، بينما تواصل إطلاق يد الجيش والمستوطنين في الاعتداءات اليومية على مختلف مناطق الضفة، لا سيما شمالها.

ورغم أن ترامب كان الأكثر "سخاء" خلال إدارته السابقة لصالح إسرائيل، حيث نقل سفارة واشنطن إلى القدس، وقدم لها ما بات يعرف بصفقة القرن التي ستضم إسرائيل بموجبها مساحات واسعة من الضفة الغربية، كما أوقف دعم واشنطن للأونروا التي باتت اليوم هدفاً مباشراً لإسرائيل لإلغاء دورها في فلسطين المحتلة، وصلة ذلك بمحاولة شطب قضية اللاجئين. ورغم ترحيب إسرائيل الحار، ودعمها المعلن لحملة ترامب، فإنها تتخوف مما قد يقدم عليه ترامب من توجهات تتعارض مع تطلعها لتنفيذ ما يسمى بخطة الحسم لتصفية القضية الفلسطينية.

ولا شك أن علاقة ترامب مع دول الخليج ستحتل أولوية، وأنه سيسعى لمزيد من التطبيع مع إسرائيل، وفي هذا السياق تبرز أهمية الدور السعودي، وما يقوده وزير خارجيتها فيما يتصل بإنشاء التحالف الدولي لحل الدولتين، والذي بات تحقيقه في مسار غير قابل للتراجع شرطاً سعودياً لأي عملية تطبيع قادمة. فهل سيشكل هذا الموقف ركيزة للسياسة العربية وعلاقاتها مع واشنطن في المرحلة القادمة؟.
إن مدي تحويل هذه السياسة إلى استراتيجية عمل يتطلب معالجة العديد من الملفات في الحالة الفلسطينية، ويأتي في مقدمتها وقف حرب الإبادة ضد شعبنا في قطاع غزة، والتصدي لسياسة نتنياهو التي تسعى لترسيخ فصل القطاع عن الكيانية الوطنية، وتحويله إلى عبء دائم ومزمن، بعد أن شكل منذ النكبة رافعة أساسية للكيانية الوطنية، والتي دون تأكيد وحدتها يصبح الكلام عن إمكانية إقامة دولة فلسطينية مجرد كلام لا رصيد له في الواقع. أما المسألة الثانية المتصلة بمصداقية حل الدولتين، فهي تستدعي التصدي الفاعل لغول التوسع الاستيطاني وسياسة تهويد القدس والسيطرة التامة على مقدساتها الإسلامية والمسيحية، بما يعنيه ذلك من توفير متطلبات الصمود. وهنا يبرز السؤال الآخر هل النظام السياسي للسلطة الوطنية و منظمة التحرير الفلسطينية، بهشاشة واقعهما الراهن، ويمتلك مقومات القدرة على التصدي لهذه المهام الوطنية الكبرى، وبما يمنع تجاوزها؟.

نظرة عاجلة لهذا الواقع، وإصرار القيادة المتنفذة على إدارة الظهر لمتطلبات معالجته، بما فيها الاستمرار في وضع مقررات إعلان بكين في أدراج مظلمة، ويفرض على الأشقاء العرب، أخذ هذا الأمر بصورة جدية سيما لجهة مساعدة القوى الفلسطينية على التنفيذ الفوري لقرارات إعلان بكين بتوحيد المؤسسات الوطنية الجامعة، وتعزيز شرعيتها من خلال مشاركة الكل الفلسطيني في تحمل مسؤولية وتبعات صنع القرار الوطني في إطار منظمة التحرير، والبدء الفوري باجراءات تشكيل حكومة وفاق وطني، وفق أولويات عمل ومرجعية وإطار زمني يفضى لإجراء الانتخابات العامة الشاملة.

فإخراج هذه القرارات إلى حيز التنفيذ هو ما يعزز الشرعية الوطنية، ويصون حقوق شعبنا وقضيته العادلة، ويُمَكِّن من بلورة خطة فلسطينية عربية، بل ودولية، تفرض نفسها على المشهد الدولي. وهو الذي سيجعل ترامب والأطراف الدولية الأخرى غير قادرين على تجاوز المسألة الفلسطينية، وذلك لأن تحقيق استقرار المنطقة يبدأ من تنفيذ متطلبات الحل العادل للقضية الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي، التي تضمن لشعبنا الحرية والعودة وتقرير المصير، وليس استبدالها بوقائع الإبادة والتطهير العرقي والضم الاستعماري الذي تسعى إسرائيل لفرضه.