اخترتُ هذا العنوان لمناقشة جانبٍ حيويٍّ ومؤثِّر من جوانب القضية الفلسطينية في صراعها ضدَّ الكيان الصهيوني المحتل لأرضنا، والذي يحظى بالدعم المطلَق من الولايات المتحدة، وبقدراتٍ ماليةٍ هائلة، وتقنيات علمية متطوّرة، وحماية سياسية في الهيئات الدولية، ومساعدات عسكرية وتسليحية متقدّمة، ومعدات صناعية، وتسويق إعلامي عالمي لمساعدتها على تسجيل اختراقات في العديد من الدول الفقيرة والمحتاجة لكسب تأييد ودعم هذه الدول.
وهذا ما حصل في القارة الافريقية وغيرها، على مرأى ومسمع الدول العربية والإسلامية، بينما المليارات العربية والإسلامية يتم استثمارها، أو تخزينها في البنوك الأميركية والأوروبية.
بالمقابل فإنَّ منظمة التحرير الفلسطينية، وعمودها الفقري حركة "فتح" تعاني ماليًّا، وقد تمَّ تدمير الجزء الأكبر من اقتصادها، خاصّةً بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، وتدمير المخيّمات والمؤسّسات. وازدادت المأساة العام 1990 مع بداية الصراع في منطقة الخليج العربي، حيث تمحورت في دائرة أساسية وهي تدمير العراق بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي العام 1989، وتدمير العراق كدولة عربية تمتلك أكبر جيش عربي، وأهم اقتصاد عربي، وشعبهُ لديه انتماء قومي لفلسطين وقضيتها. وتدمير العراق كما شاهدنا، وسقوط ما يزيد على مليون شهيد، والسيطرة على نفطه، وضرب وحدته الداخلية كان أجمل هدية للعدو الإسرائيلي الذي اطمأنَّ بأنَّه أزال عقبةً كبيرةً من أمام نفوذه وهيمنته في المنطقة.
في هذا الوقت تمَّت معاقبة "م.ت.ف" ومعها حركة "فتح" بوقفِ المساعدات كافّةً وخاصّة الخليجية ودُفِعَت لحركة "حماس"، وهذا ما أثَّر على المنظمة اقتصاديًّا، وبعد ذلك كانت محاولة استبعاد قيادة المنظمة من مفاوضات مدريد التي شاركت فيها كلُّ الأطراف العربية والدولية المعنية. ولم يبقَ أمام قيادة المنظّمة إلاَّ أن تختار اتفاق أوسلو التعاقدي من أجل العودة إلى أرض الوطن، وفكِّ الخناق العربي والدولي عن العنق الفلسطيني. وكان اتفاق أوسلو هو الخيار المرّ الذي لا بدَّ منه من أجل أن نعود إلى فلسطين لنحمي القرار الوطني الفلسطيني، ونستكمل مسيرتنا وكفاحنا الوطني، وأن نكون وجهًا لوجه ضدَّ الاحتلال، لأنَّنا لا نريد أن نكون تحت إبطِ أحدٍ، ولا أن نكون جزءًا من مشاريع الغير. وما زلنا على منهجيتنا، ومواقفنا الوطنية، وما زلنا الأحرص على استمرار "م.ت.ف" الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والحرص على القرار الفلسطيني المستقل.
انطلاقًا من هذه المقدّمة نستطيع أن نفهم الحراك الاعلامي الحالي خاصة الفلسطيني، وتحديدًا بعد انقلاب 14/6/2007 الذي سبقه قرار شارون بسحب جيشه ومستوطنيه من قطاع غزّة ورميهم على صدر الضفة الغربية، وهذا الانسحاب الذي جعل قطاع غزّة ساحةً لأحداث مؤسفة سقط جرّاءها مئات الضحايا، وتمَّت السيطرة على القطاع من طرف واحد، هو صاحب القرار بعيدًا عن أية شراكة، أو علاقات وطنية، أو حياة ديمقراطية، وإنَّما حالة رعب وقمع. وما زال كلُّ شيء على حاله.
ورغم كل الجهود، واللقاءات، والاجتماعات في مختلف العواصم بين فصائل "م.ت.ف" وحركة "حماس" من أجل إطفاء نار الانقسام، واستعادة القطاع إلى الوطن، من أجل تجسيد الوحدة الوطنية، ورغم أنَّ الرئيس أبو مازن طرقَ كلَّ الأبواب، وحاول احتضان الجميع، من أجل توحيد الموقف الفلسطيني بوجه الاحتلال الاسرائيلي محاولاً نسيان ما حصل العام 2007، والضحايا، والمآسي، والأبعاد السياسية لذلك الحدث الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، رغم كل الجهود والمواقف المشِّرفة والمسؤولة التي وقفها الرئيس أبو مازن، يبدو جليًّا أنَّ المطلوب هو أن نبقى في مستنقع الانقسام وهذه رغبة أميركية، وإسرائيلية، وإقليمية من بعض الدول، وأيضًا من بعض الفصائل التي تجد مصلحتها في استمرار الانقسام.
وهنا أتوقَّف أمام إشكاليةٍ إعلاميةٍ مؤذيةٍ للقضية الفلسطينية، وهذه الإشكالية تنبع أولاً من غياب المصداقية في الطروحات الإعلامية لدى بعض القنوات الفلسطينية وغير الفلسطينية، وتنبع ثانيًا من أحقاد سياسية وصلت حدَّ التعفُّن والكراهية المطلَقة لقيادة "م.ت.ف" وخاصّةً لسيادة الرئيس أبو مازن الذي يقودُ المشروع الوطني الفلسطيني اليوم بعنفوان فلسطيني، وبجرأة لا يمتلكها غيره، وبوضوح يعجز عنه الآخرون، وبصبرٍ على الجراح النازفة من طعنات اخوة المصير، والأقربين قبل الأبعدين، بحيث أصبح جليًّا ومن خلال بعض وسائل الاعلام المموَّلة والمدعومة فقط لمحاولة تحطيم واغتيال الرئيس أبو مازن سياسيًّا وجسديًّا وهو الذي رهن حياته كلها لشعبه. وهذا نفسه المسلسل الذي أدّى إلى اغتيال ياسر عرفات. ومَن يتابع ويراقب هذه القنوات يوميًّا يُدرِك أنَّ العدو الأساسي لديها هو الرئيس محمود عبّاس الذي حملَ الأمانة بكل أمانة، بعد استشهاد ياسر عرفات لأنَّه كان المطلوب بعد اغتيال الرمز ياسر عرفات أن تنتهي قيادة "م.ت.ف"، وأن يبرز نجمُ قيادة حركة "حماس" وبشكلٍ منسجمٍ مع ما يشهده العالم العربي من صراعات ونزاعات. وحركة "فتح" ليست ضدَّ أن تأخذ حركة "حماس" دورها في إطار المشروع الوطني الفلسطيني، ولكن حركة "فتح" ضدّ أن يكون القرار الدولي والإقليمي داعمًا لوجود مشروع فلسطيني تحت تسمية دينية أو غير دينية ليفرض نفسه على أنقاض منظمة التحرير الفلسطينية، ليبدأ مسيرة جديدة تنسجم مع الرغبات الأميركية المعلَنة حول إقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزّة وجوارها. ومن أجل ذلك من حقِّنا أن نُعلن بأنَّ الطرف الذي يُعطِّل المصالحة، ويُصرُّ على حكم غزّة بحكم الأمر الواقع هو الذي يُقدِّم نفسه جزءًا من المشروع الذي يسعى إلى تدمير المشروع الوطني لأنَّ لديه مشروعًا آخر.
ومن حقِّنا أن نسأل هذه القنوات لماذا الإصرار في برامجها السياسية المتعلّقة بالموضوع الفلسطيني دائمًا على تقزيم القضية الفلسطينية من خلال تخوين قياداتها ورموزها. ومن خلال التشكيك والطعن في المواقف الوطنية، ومن خلال زرع الفتنة في الصف الفلسطيني، وأيضًا عبر تسميم المُناخات الشعبية، وساحات المخيّمات بالإشاعات المغرِضة، والأكاذيب الملفَّقة، وتزوير الحقائق، وتشويه المواقف، وتسويق سياسة تخوين القيادات الوطنية. وفي الوقت نفسه عدم التعرُّض لنتنياهو وفريقه، ولا لترامب وطاقمه إلَّا من قبيل رفع العتب.
شعبنا يحتاج إلى من يوحِّد صفوفه، ومَن يزرع في ذهنه وثقافته لغةَ المحبّة والتفاهم، إنَّه بحاجة إلى لغةٍ إعلاميةٍ وسياسيةٍ تعتبر العدو الإسرائيلي هو العدو. والشعب الفلسطيني شعب طيّب وعريق، ومناضل وصاحب سيرة وطنية، ويكره المكر، والخداع، والتلاعب في المواقف، وأهمّ ما يحتاجه المحبّة، والثقة المتبادَلة، والصراحة المطلَقة، والجرأة في قول كلمة الحقّ، شعبنا هو من سلالة أبطال قادة صنعوا التاريخ أمثال الرمز ياسر عرفات، وأبو جهاد الوزير، وأبو يوسف النّجار، والشيخ أحمد ياسين، وفتحي الشقاقي، وجيفارا غزّة، وجورج حبش، وعمر القاسم، وعبدالكريم حمد، وعبدالرحيم أحمد، وزهير محسن، وأبو العبّاس، وطلعت يعقوب، وسمير غوشة، وجهاد جبريل، وبشير البرغوثي، وسليمان النجاب، والقائمة تطول، فاحترموا نضالات شعبنا، ولتكن قنواتُكُم عاملَ توحيد، وتصليب لجبهتنا الداخلية، ونشر المحبّة والاخوّة الوطنية بوجه العدو الإسرائيلي، وإلاَّ لا تصبوا الزيت على النّار.
عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"
الحاج رفعت شناعة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها