بمناسبة الذكرى التسعين لتأسيس "الإخوان المسلمين" تقدم خالد مشعل خطوات أخرى إلى الإمام ، وفي تقدمه أعلن بداية الانفصال الجزئي عن مضمون الفكر الإخواني الماضوي الراكد، ذلك الفكر المتميز بسمات لم تعد عين أي متابع تخطئها مثل إدعاء المظلومية والشعور بالغبن، والحق المتراكب على أكتافهم لوحدهم، وأن العداء أو الخصام معهم عداء وخصومة مع الإسلام؟! في متتالية قداسة تطال كل عنصر إخواني!

لقد كان من مميزات الخطاب ألإخواني وأدبياته أيضًا الظن الدائم أنَّهم وحدهم أي "الإخوان المسلمين" أنَّهم المسلمين حقًا دون الأمة! فهم صوتها الحقيقي وهم المجاهدون على ثغر من ثغور الأمة لاستعادة الخلافة وقيادة العالم، فيما الأمة جمعاء باستثنائهم قد نزلت عن الجبل أو أنها في جاهلية في سياق اتهام الغير وتبرئة النفس حتى عن النقد.

المفاهيم التقليدية للإخوان المسلمين لم تتغير حتى اليوم للأسف، رغم إنَّ الماء بالنهر قد تبدل ملايين المرات، ورغم أنَّ فئات عديدة من ذات قيادات "الإخوان" قد تطورت أو تنورت فانفصلت عن هذا السياق الفكري ألإقصائي، أو خرجت كليًّا، ولأي كان أن يراجع رسالة الإخوان المسلمين الأخيرة-سنورد مقاطع منها- ليرى أن الانفكاك عن مثل هذه الفكر ألإخواني الماضوي في التعبئة الداخلية وهم.

النصوص الماضوية الإستئصالية والتي تطورت لتشدد مقيت مرت بمراحل عبر النظر الضيق أو النظر التقديسي لنصوص قطب والمودودي وغيرهما، وما كان ذلك إلا لضيق ذات البين بالمعتقلات والتطرف وعدم تحقق الأمل.

النصوص الاستئصالية للآخر ونفي الدين عنه او تجهيله من جهة المنزهة للنفس من جهة أخرى هي نصوص ارتبطت بظني بالمجموعة الصلبة النقلية من “الإخوان المسلمين” وهم المجموعة الإخوانية الماضوية التي تقدس النصوص حتى نصوص حسن ألبنا وسيد ومحمد قطب والمودودي والندوي وغيرهم. ولا تلقي بالاً لنماء الواقعية والتجريبية والعملانية في ذات فكر الإخوان وتجربتهم حتى في تجربة ألبنا ذاته الذي على ما قيل فيه كان ابن مرحلته وكانت نظرته في تلك المرحلة رهينة الظروف التي بتغيرها تتغير النظرات.

النصوص الماضوية الاستئصالية لا تلقي بالا أبدا لاختلاف الظروف والأزمان وبالتالي سقوط كثير من التحليلات التي ارتبطت بمرحلة وعليه لا تصلح لمرحلة أخرى.

لقد قال تعميم الإخوان المسلمين لمحمد عبدالله السمان هذا العام 2018 عن حسن ألبنا الموسوم حسب التعميم ب(عبقرية فذة وبصيرة نافذة، شجاعة علي وحكمة معاوية، مؤذن ومصباح) قال أن ألبنا الذي وصفه برجل "ذو قدرات خارقة"هو من"بعث الحياة والحركة في الإسلام من جديد"؟! ولو قال في المسلمين لكان أقرب، ولكن في الإسلام؟! كيف يستقيم ذلك والله حافظ دينه!

مضيفًا أي تعميم الإخوان أنَّ ألبنا عمل على: "بعث الوجود الإسلامي حتى يسترد الإسلام اعتباره"!! بل وتمادى للقول أنَّ: "هذه الدعوة ليست دعوة حسن ألبنا وإنما هي دعوة الله في السماء، دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بالأرض" ؟!! فإنَّ كان مثل هذا الكلام يعقل قبل تسعين عاما لظروف محددة أيعقل أن يعاد تكراره اليوم؟!

التعميم ألإخواني في 4/2/2018 أعاد عبارات عديدة تقادمت وسقطت مع الزمن أو تغيرت كثيرا مثل أن "الإسلام: دين ودولة، ومصحف وسيف" ورفض "الحكم الجاهلي".

وأنَّ دعوة الإخوان تهدف إلى تصحيح مفاهيم الإسلام لدى المسلمين لكي: "يصبح الإسلام- كما أراده الله ديناً ودولة ومصحفاً وسيفاً"! و"هل يرفض مسلم مثل هذه المطالب"! نعم نرفض هذه المطالب فلك أن تعرّف الاستلام كما تشاء، لكنه دين يدان به وحكمة وعظة وقيم وأخلاق للأمة جمعاء وليس لدولة تقوم وتزول، وما كان السيف إلا دفاعا وليس قاعدة أبدا ، نعم نختلف معكم كلية في هذه الأفكار الوثوقية الاقصائية المنزهة للدعوة والذات.

يقول ألبنا ومن متن التعميم موجها خطابه لأعضاء الجماعة أنكم "ما اتبعتم غير رسوله زعيما وما ارتضيتم غير كتابه منهاجا وما اتخذتم سوى الإسلام غاية"!! مضيفا بلا توسط أبدا حيث المطلوب "إما ولاء وإما عداء"؟! أيصح ذلك لهم وحدهم اليوم في ظل تعدد التنظيمات الإسلاموية والمفكرين وانتشار الفكر الديمقراطي؟

أن الأخ خالد مشعل ابتعد منذ فترة طويلة عن فكر الإخوان الإقصائي المغلف بالحصرية الإيمانية ونبذ الآخرين بل واتهامهم، والذي بالحقيقة ما زال يعبر عن الفكر الرسمي الماضوي لفكر الإخوان، وكما أدرجنا مثالاً صغيرًا من آخر تعميم للجماعة.

مسيرة خالد مشعل الذي تربي في بيئة محافظة وقدرته على النظر للأمور بروية وشجاعة وانفتاح مشهود اكتسبها من مختلف التجارب والمعارك التي حطمت الكثير من أحلامه بوراثة منظمة التحرير الفلسطينية، أو الانقلاب عليها منذ تكامل مع النظام السوري قبل ربيعها الذي تحول صيفاً لاهباً، وصولا للتساوق مع المطامع القطرية بإدخال حماس قسرا كممثل ند للمنظمة، ومختلف التشابكات التي خبرها في متاهات السياسة هي كلها مما أنتج في فكر خالد مشعل العقلاني ابتعادا متدرجا عن الفكر الإقصائي الوثوقي الطاهر بطهورية النص ومنشئه أي كان.

كل الاحترام لأي مفكر يعتبر أن ما يطرحه ليس مغلفا بقداسة ما بين دفتي الفرقان وهو ما دعا الكثير من المفكرين الذين يحترمون عقلهم للخروج من بطن الإخوان المسلمين إلى أن قيض الله نفرا فيهم اكتسب من القدرات العقلية ما جعله يفصل بين حبه واحترامه للتجربة وروادها وبين إمكانية نقدها والتغيير في طريقة النظر والتفكير ورؤية الأشياء من غير المنظور الذي نشأ من 90 عاماً.

كان الإعلان الأبرز للتبدل والتغيير في فكر الإخوان المسلمين الفلسطينيين قد تم تعميده بوثيقة "حماس" الهامة للعام 2017 والتي مثلت نقلة نوعية حقيقة في الفكر والسياسة والاجتهاد، وفي اعتقادي أن لخالد مشعل شخصيا ومجموعة متوافقة معه الدور الرئيس بأن يسيروا في مركب د.راشد الغنوشي وثلة من المفكرين الإخوانيين الآخرين.

في خطاب خالد مشعل الأخير اعتبر العدو هم المحتلين الإسرائيليين فقط، ولم يعد في الصياغات تطهير المجتمع من الفسقة أو المنافقين! أو عبارة "اذهبوا فأنتم الطلقاء"! وهو ما كان من التعبئة الداخلية حتى في "حماس"- ولربما مازالت حتى اليوم-التي تفترض الكفر باليسار والنفاق بحركة فتح كما أورد عماد الفالوجي في كتابة الثمين.

بعد أن أشاد مشعل بدعوة "الإخوان" التي يحبها ويجلها وينتسب لها والتي اعتبرها تمتد بالاتجاهات الأربعة، وبعد أن أشاد بالمؤسس حسن ألبنا، وهذا شانه بالفخر -إلى حد المبالغة أحياناً- بالتنظيم ومؤسسيه كما الحال من فخر أي عضو حزب أو فصيل بانتمائه لفصيلة، إلّا أنَّه انتقل نقلة نوعية للأمام فاتحاً الباب أمام الآخرين فهم أي "الإخوان" ليسوا وحدهم جماعة المسلمين كما الصيغة السائدة، وهم ليسوا مقدسين أو منزهين بل هم فصيل أو جماعة أو تنظيم كغيره حيث قال:"إن الجماعة تصيب وتخطئ، وهي جماعة من المسلمين، ومن حق الجميع الاختلاف معها وانتقادها والمنافسة، ونستدرك لكن بإنصاف وشرف فليس من الحق إقصاء الإخوان".

رائحة الفكر الإصلاحي في متن "الإخوان" دون القطع مع مبادئها الأساسية كانت واضحة بالخطوات الواسعة التي خطاها د.راشد الغنوشي ود.محمد حبيب ود.عبد المنعم أبو الفتوح وثلة أخرى من "الإخوان" الفلسطينيين منهم خالد مشعل الذي رغم الطرح الإصلاحي الذي أراه يسير في جنباته إلّا أن خطابه لم يخلُ من الوثوقية والافتخار إلى حد الاقتراب من التعصب، ما يهدد التفاؤل بكثير من التقدم المأمول حيث قد تصبح الجماعة حزبا سياسيا كما الأحزاب الأخرى حزب يخطئ ويراجع نفسه، ويغير نصوصه المستبدة ونظرته الماضوية الكارهة للآخرين، ولا يحارب الأمة بسيف الفكرة المقدسة أو سلاح التجهيل أو بلي عنق الآيات والإنشداد للمفاهيم الإخوانية التي عفا عليها الزمن، ويحاسب ويجترح خطة عمل ورؤية جديدة.