خمسة عشر شهرًا متواصلةً، مارس فيها جيش الاحتلال الاسرائيلي، أبشع أشكال الإبادة الجماعية، في حربه على البشر والشجر والحجر في قطاع غزة.

صورة مأساوية، تكشفت ملامحها بعد دخول اتفاق التهدئة الذي أرهق الجميع حيز التنفيذ، حيث اتضح حجم الفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق القطاع الصغير والمحاصر. بشكلٍ تأكد معه الهدف الحقيقي من حربه على القطاع، وهو تدمير كل مقومات الحياة فيه، وجعله بيئة طاردة لسكانه.

وفي ظل هذا الواقع الكارثي، تبرز لنا تحديات حقيقية، جزء منها يتعلق باتفاق التهدئة ومدى قدرة الأطراف في الحفاظ عليه، وجزء آخر يتعلق بمستقبل قطاع غزة.

- أولاً: فيما يخص اتفاق التهدئة وتحدياته

نظريًا، اتفاق التهدئة ينقسم إلى ثلاث مراحل، يتم التفاوض حول المرحلة التالية خلال سريان المرحلة محل التنفيذ. وهنا يكمن أول تحدٍ، فمن الوارد جدًا ألا يتم الاتفاق على تفاصيل المرحلة التالية، خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة. ما يهدد الاستمرار في التهدئة، سيما وأن اليمين الصهيوني المتطرف في حكومة الاحتلال، يضغط باتجاه عودة القتال والحرب على قطاع غزة، وإلا سيعمل على إسقاط الحكومة.

تحد آخر أمام الاتفاق، وهو رغبة نتنياهو بعدم وقف الحرب بشكل كامل على غزة، لأسباب سياسية داخلية، وأخرى تتعلق بخلق واقع جديد في غزة. حيث يسعى باتجاه استعادة أكبر قدر ممكن من الأسرى الإسرائيليين في غزة، دون التعهد بوقف الحرب في أي مرحلة من مراحل التهدئة. صيغة أشبه بالمستحيل التوصل إليها.

فلسطينيًا، نحن معنيون باستمرار التهدئة بما يحقن دماء شعبنا، ويوفر له مقومات العيش أو التعايش مع الوضع المأساوي الذي أنتجته الحرب. لكن استمرار الانقسام وعدم وحدة الموقف سيؤدي إلى إضعاف وتفرد موقف الفصائل المسلحة في غزة، أمام تحديات المراحل المقبلة من اتفاق التهدئة. ما سينعكس على مصير ومستقبل قطاع غزة، الذي تحاك حوله مؤامرات وجودية خطيرة، يسعى اليمين الصهيوني إلى استغلال الظروف الراهنة لتمريرها.

- ثانيًا: آفاق ومستقبل قطاع غزة

أنتجت حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة واقعًا كارثيًا للتعايش معه، وسلوك حكومة اليمين الصهيوني وتلكؤها في الالتزام بالبروتوكول الإنساني من اتفاق التهدئة، يؤكد أنها تسعى لإطالة أمد معاناة أهلنا في غزة، لتشجيع الهجرة (الطوع قسرية) إن صح التعبير، بعد فشل الضغط العسكري في دفع سكان القطاع نحو اختراق الحدود المصرية، للنجاة من القصف المهول الذي تعرضوا له.

صحيح أن الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة أثبت أنه راسخ على أرضه، وثابت على موقفه، لكن تعزيز هذا الصمود يتطلب وحدة وعقلانية في الموقف والقرار الفلسطيني. وهنا الدعوة لحركة حماس وجميع الفصائل خارج منظمة التحرير، بضرورة العودة للحاضنة الوطنية الفلسطينية، الشرعية والوحيدة المعترف بها، لمواجهة المخططات الصهيونية الخطيرة بكل حكمة واقتدار، وبما يعزز الوجود الفلسطيني على أرضه قبل فوات الأوان.

ختامًا، صحيح أن اتفاق التهدئة أمام تحديات حقيقية تهدد الاستمرار فيه، لكن قراءتنا للمشهد العام، الاتفاق يسير نحو مراحله التالية، رغم بعض الخروقات والتحديات. قد تحدث بعض المناوشات، لكن سيتم تجاوزها، لأن الحرب حققت الهدف الحقيقي منها بتدمير غزة، والمرحلة التالية منها، هي الاستثمار الإسرائيلي في هذه النتيجة. ولارضاء اليمين الإسرائيلي المتطرف، سيعمل نتنياهو على تصعيد الأمور بشكل أكبر في الضفة الفلسطينية المحتلة، وهو ما نشهده خلال الفترة الماضية من عمليات عسكرية كبيرة، تسعى لفرض وقائع جديدة على غرار غزة.