تقديس المنقول، وأخذه كمسلمات، لا جدال ولا نقاش ولا شكوك فيه، ودون أسئلة حول منطقه وموضوعه ومضمونه، أو إن كان ملائمًا للواقع، أو منسجمًا مع تطور الأفكار والرؤى الإنسانية، ومدى تطابقه مع المعارف والعلوم المتقدمة (غير الثابتة) كانت المشكلة الأساس التي ورثتها المجتمعات العربية منذ القرن الثامن الميلادي. أما النائبة العظمى التي حلت بالشعوب فهي أن البعض عندنا ما زال مصرًا على تعقيدها أكثر، حتى القرن الواحد والعشرين الذي نحيا أيامه ونعيشها، متجاهلاً أو غافلاً عن مجاورتنا لعالم يزخر بالتقدم العلمي والحضاري، والفكري، وتوفر الوسائل التي تمكن كل فرد في العالم من مواكبة حركة الحياة في الدنيا بمساراتها كافة، ورغم ذلك ما زالت محاولات، اغتصاب عقل الإنسان، وتجميد دماغه، لمنعه من التفكير والتحليل، واستخلاص النتائج، وبذلك كله يظن صناع ومطورو هذه المشكلة، بقدرتهم على فرض ما ينقل عنهم، والمزين بمنقول من الإرث كحقيقة، حتى أن بعضهم ذهب لأبعد من ذلك، ويحاول في عصر ثورة التكنولوجيا، تكذيب الوقائع، أو حجب بعضها، وإعادة تضخيمها، ومنحها مسميات، ومعاني وتفسيرات، ليست ذات صلة بالوقائع، التي بات العالم يشاهدها من 360 درجة أفقيًا وعموديًا، ومن كل الاتجاهات شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، ومن هؤلاء، نرى اليوم من احتل مكانة المنجمين، الذين لعبوا دورًا لا يستهان به في عصور غابرة، في تسييد سلطانهم، المستمد من سلطان من يخدمونه. بحكم المصلحة المشتركة، لكن هؤلاء الذين نقصدهم، لا يجلسون على أرائك، ولا يعبقون الأجواء بدخان البخور، ولا يستخدمون القرون والجماجم والودع والأصداف والرمل والحصى وغيرها من أدوات النصب، وإنما يمارسون حرفة تعقيد مشاكل حياة البسطاء وهم الأكثرية في الناس، باستخدام أدوات ما كانت إلا للتواصل بين الإنسان والإنسان بالحق والخير والمحبة والسلام، والعلم والمعرفة، والفلسفة والمنطق، التي تقربنا أكثر من إدراك بعض الحقيقة، المطلوبة لتحفيز قناعات الإنسان على المضي في السباق مع الزمن.

ما نشهده اليوم مؤلم أكثر بأضعاف، عما قرأناه من أحداث غابرة في التاريخ، كان فيها الباحث عن الحقيقة يُحرق، أو يقتل بالسم، أو يسجن، أو يضهد، أو يسلط عليه أراذل المجتمع لإذلاله، ما يحدث اليوم أننا نجد فئة غير قليلة، من كل شريحة في مجتمعاتنا، تقوم بالمهمة ولكن ليس بذات الوسائل والأدوات، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق، فالمستهدف في التاريخ أفراد نابغون في العلم والفلسفة، أما اليوم فالمستهدف ليست شرائح المجتمع وطبقاته، بل كيانه الاجتماعي والثقافي، تمهيدًا لهدم كيانه السياسي، وهدم أركانه التي رفعت على قواعد الحق المطلق، فترى مدعيًا يحتل موقعًا ثقافيًا أو سياسيًا أو مهنيًا، وأخطرهم من أصحاب المهن الصحفي الذي يخون مبادئ المهنة، فيطرق على الحدث كالطارق على قطعة معدنية، فيقص منه ما يحقق رغبات باطلة الساكن في عقله ومفاهيمه، ويغدر بالحقائق وهو في ذروة جهل بما حوله، فينشر ما يسميه خبرًا مشبعًا بدسم مسموم، ظنًا أنه العين الوحيدة التي رأت، والأذن التي لا سواها قد سمعت، فيسعى لتسويق بضاعته الفاسدة، وعار خيانة المهنة مدموغ على جبهة اسمه، وينطبق الأمر على شاعر، يكاد شيطان شعره، إذا نطق بيتًا واحدًا، يصيب عشرات المنافقين في السياسة بالإغماء، اندهاشًا من قدرته على الدجل، وإخضاع الفكرة والمبدأ للمساومة.