صرّح الرئيس أبو مازن خلافًا لمعظم مساعديه الذين بدوا من خلال تصريحاتهم متشائمين بأنّ المفاوضات لم تصل إلى طريقٍ مسدودٍ، وفي نفس الوقت تقريبًا؛ صرّح القنصل البريطاني العام في القدس أنّ ربيعَ العام القادم سيكون مهمًّا وحاسمًا فيما يتعلق بإقامة دولة فلسطينيّة، مرجّحًا التوصل إلى اتفاق. وبعد هذا التصريح، صرّحت تسيبي ليفني، رئيسة الوفد الإسرائيلي، بأنّ المفاوضات لم تصل إلى طريقٍ مسدودٍ، ولكنّ تعثّرها قد يؤدي إلى قيام دولة فلسطينيّة بشروط مختلفة عن تلك التي يتم التفاوض عليها حاليًّا وغير مواتية لإسرائيل، وحذّرت بأنّ الجمودَ الذي قد تصل إليه "عمليّة السلام" هو التهديد الأكبر الذي تواجهه إسرائيل، لأنّه قد يؤدي إلى دولة فلسطينيّة لم تنتج عن مفاوضاتٍ تمثّل مصالحَ إسرائيل، أي أنّ ليفني تحذّر من اتفاقٍ يفرض على إسرائيل وتفضّل اتفاقًا ينتج عن المفاوضات الثنائيّة تحقق فيه إسرائيل شروطها كاملة.
بعد لقاء وفد الجامعة العربيّة مع جون كيري في باريس، صرح ناطق باسم الجامعة بأنّ كيري وعد الوفد بأنّ الإدارة الأميركيّة ستقدم أفكارًا تساعد على ردم الهوّة القائمة بين الجانبين إذا لم يحدث تقدمًا في المفاوضات حتى بداية العام القادم، أي بعد مرور ستة أشهر على استئناف المفاوضات المخطط أن تنتهي خلال تسعة أشهر، بالرغم من أنّ ليفني والخارجيّة الأميركيّة صرحوا أكثر من مرة أن هذه المدة ليست سقفًا نهائيًّا مسلّطًا على رؤوس المفاوضين، ويمكن تمديدها رغم التأكيدات الفلسطينيّة بأنها سقف نهائي.
لقد أخبر كيري وفد الجامعة "بأن المفاوضات لم تحقق اختراقًا، وأن توسيع الاستيطان يأتي في سياق حفاظ نتنياهو على ائتلافه الحاكم، وأن تجميده لم يكن ضمن "التفاهمات" التي أدت إلى استئناف المفاوضات"، وأضاف بأن المفاوضات أنهت حتى الآن استعراض مواقف الطرفين (وكأن المواقف لم تكن معروفة). وبدأت مؤخرًا محاولات تقريب المواقف، وهي مرحلة ستستغرق وقتًا، وإذا لم تحقق هدفها فسيكون هناك تدخل أميركي؛ ما يدل على أن هناك تصميمًا على نجاح المفاوضات.
ما سبق، وما تشير إليه توقعات مصادر موثوقة؛ يعزز أنّ الإدارة الأميركيّة لن تترك المفاوضات تنهار بعد أن استثمرت فيها كثيرًا، لا سيما في ظل حاجتها الماسّة إلى إنجاز يعوّض خساراتها، خصوصًا في مصر وسوريا، وقبلهما في العراق وأفغانستان، مع احتماليّة أن يلحق ذلك السعوديّة ودول الخليج الأخرى التي ضاقت ذُرعًا بتقلبات السياسة الأميركيّة وغدرها بحلفائها.
ما يشجع إدارة أوباما على تجريب حظها في حثّ الأطراف على التوصل إلى اتفاق أنّ الطرف الفلسطيني في أسوأ أحواله، في ظل الضعف والانقسام من دون موقف عربي داعم، بل إنّ الدول العربيّة في حالتها الراهنة ستعتبر أيّ محاولة أميركيّة لفرض حل على الطرفين إنجازًا، وأفضل من حل إسرائيلي ينتج عن مفاوضات ثنائيّة تتحكم بها إسرائيل، لأنها تتم من دون مرجعيّة ووفق الشروط الإسرائيليّة، وفي ظل الاختلال الساحق بميزان القوى لصالح إسرائيل.
إذا استطاعت الإدارة الأميركيّة إقناع روسيا وفي مقدورها إقناع أوروبا والأمم المتحدة والجامعة العربيّة بفرض حل على الطرفين، لأن أمن واستقرار المنطقة والعالم ومصالح الأطراف المؤثرة على القرار الدولي تتطلب إيجاد حل للقضيّة الفلسطينيّة. إن تلك الأطراف سبق أن وافقت على استئناف المفاوضات بحماس بالرغم من أنها تمت وفق شروط مختلة لصالح إسرائيل، لدرجة أن وفد الجامعة العربيّة سبق ووافق على استئناف المفاوضات في لقائه مع كيري في عمّان في تمّوز الماضي، وذلك قبل أن يبلور اقتراحه، وقبل الموافقة الفلسطينيّة التي جاءت من الرئيس الفلسطيني، بالرغم من المعارضة شبه الجماعيّة لاستئناف المفاوضات من داخل اللجنة التنفيذيّة وخارجها من دون تجميد الاستيطان، ولا التزام إسرائيلي بإقامة دولة فلسطينيّة على حدود 1967، حتّى ولو تضمن هذا الالتزام إقامة الدولة مع تبادل أراضٍ، ما يمكّن إسرائيل من ضمّ الأراضي التي تحتاجها، ولكن إسرائيل رفضت ذلك، لأنّ الحكومة الإسرائيليّة تتفاوض مع نفسها، وهذا هو التفاوض الحقيقي الجاري بين عدة اتجاهات:
الأول وهو الأضعف، وتمثله ليفني والأحزاب الأقل تطرفًا المشاركة في الحكومة، ويعتبر أن الفرصة الآن ذهبيّة لفرض حل نهائي على الفلسطينيين تفصّله إسرائيل على مقاسها، ويتضمن تصفية نهائيّة لقضيّة اللاجئين، وإقامة "دويلة" فلسطينيّة بالمواصفات الإسرائيليّة.
هناك اتجاهان آخران داخل الحكومة يرفضان إقامة دولة فلسطينيّة، ويختلفان ما بين: المنادي بالحفاظ على الوضع الحالي لتوفر الفرصة لحل أكثر فائدة لإسرائيل؛ وبين من يطالب بالتوصل إلى حل انتقالي جديد مغطى بـ"إعلان مبادئ" جديد ويكون نهائيًّا عمليًا لو طُبِّق.
هناك اتجاه آخر يدعو إلى خطوات أحاديّة إذا لم يوافق الفلسطينيون على حل انتقالي جديد، وهو يندرج ضمن الاتجاه الذي يطالب بحل انتقالي جديد.
إنّ الفلسطينيين والعرب بدلًا من أن يتجنبوا المزيد من التدخل الأميركي بالمفاوضات بسبب الانحياز الأميركي الساحق لإسرائيل؛ يصرّون عليه ويصوّرونه عندما يتحقق بإنه إنجازٌ كبيرٌ، بالرغم من أن الانحياز الأميركي أحيانًا يصل إلى اتخاذ موقف أكثر تطرفًا من الحكومة الإسرائليّة، أو اتخاذ موقف يجسّد مصالح إسرائيل أكثر من الموقف الإسرائيلي، مثلما يحدث الآن، حين ترى إدارة أوباما كيري أن الوقتَ مناسبٌ جدًا لفرض تسوية تحقق الأغلبيّة السّاحقة من المطالب الإسرائيليّة، ولكن الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل يمكن أن ترفض ذلك وتصر على تحقيق مطالبها كاملة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تستطيع الإدارة الأميركيّة أن تفرض الاتفاق على إسرائيل أم تخفق في ذلك؟
إن الجواب يتوقف أولًا على توفر الإرادة عند أوباما للصدام مع الحكومة الإسرائيليّة والسعي إلى تغييرها إذا اقتضى الأمر، والاستعانة بالأحزاب والقوى العسكريّة والأمنيّة والاقتصاديّة الإسرائيليّة التي تدرك أهميّة انتهاز اللحظة الراهنة وفرض حل على الفلسطينيين مناسب تمامًا لإسرائيل، حتى لو تضمن بعض الفتات للفلسطينيين؛ وثانيًا، على قدرة واشنطن على إقناع موسكو، وهذا ليس مستحيلًا بعد صفقة الكيميائي السوري، والاتفاق على عقد جنيف 2، والمكالمة التاريخيّة بين أوباما وروحاني، وبدء مفاوضات جديّة بين إيران وأميركا وبقيّة الأطراف الدوليّة.
كيف يتصرف الجانب الفلسطيني، وكيف يجب أن يتصرف، وما هي ملامح الاتفاق المطلوب؟ .. هذا ما سيكون محل بحث في مقال لاحق.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها