بقلم: موفق مطر  

"هذا جنون، ومَن قام بإصدار الأوامر بتدمير تل السكن لا علاقة له بالإنسانية ولا يفهم معنى كلمة حضارة".

العنوان أعلاه والفقرة الأولى ليست لمفكر، أو فيلسوف، أو قائد سياسي، ولا هو لرئيس منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو"، ولم يكن وزير سياحة فلسطينيًّا، وإنَّما هو المواطن الفلسطيني علي أبو سليم، الذي اجتمعت فيه عقول وضمائر هؤلاء جميعًا، فنطق بلسان حق وتاريخ وحاضر ومستقبل كلِّ فلسطيني مؤمِن بوطنيّته وحضارة أسلافه على ارض فلسطين منذ آلاف السنين.

ما يُهمّنا الآن أن تُصدر الحكومة أمرًا بإيقاف الجرافات ومنع الاقتراب من تل السكن أو المساس به تحت طائلة المحاسبة القانونية، والعمل فورًا ودونما إبطاء على تأمينه، وحمايته، وقد لا نبالغ إذا قلنا إنَّ الأمر لا يقل أهمية عن تأمين المعابر وإدارتها من قِبَل الحكومة أو نشر حرس الرئاسة على الحدود مع مصر، أمَّا التفاصيل حول المسؤولية عن الجريمة فإنَّ القضاء وحده كفيل بالحكم وتقرير ذلك، بعد اضطلاع النيابة العامة بدورها في التحقيق، وأخذ الإجراءات القانونية اللازمة.

قبل أسابيع عثر الموظف المعيَّن في وزارة السياحة والآثار فخري العصّار على جرّة فخار قديمة، تؤكِّد وجود آثار في المكان كشفت عنها أعمال التجريف الأخيرة للموقع، وكان شاهدًا على أعمال الحفريات عام (1998) حين شارك في أعمال التنقيب.

بدأ التجريف من جديد في شهر أيلول الماضي لتخصيص أراضٍ بمساحة 12 دونما لتوزيعها على موظفي "حماس" كمقابل لمستحقاتهم (مخصّصاتهم الشهرية) المتراكمة على حكومة "حماس" السابقة ولجنتها الإدارية، وأخذَ الجميع هناك يتحلّلون من مسؤولياتهم.

هناك إلى الشمال من وادي غزة وعلى بعد 5 كم، جنوب المدينة حدثت الجريمة (المجزرة)، في (تل السكن) حيث عثر على أقدم الآثار الكنعانية المكتشفة في بلادنا فلسطين، وتتَّصل بالعصر البرونزي المبكر (3300-2300 ق.م).

تُفيدُ الأبحاث بازدهار الحضارة الكنعانية في تل السكن، بعد أن كان أقدم مركز إداري مصري (فرعوني) محصّن في فلسطين، وكان بمثابة المكان الرئيس للأعمال التجارية بين مصر والمناطق المجاورة لها في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، وسُمِّي (تل السكن) نظرًا لتكوين مادة البناء فيه من طين مجبول بمادتي (الفحم والسكن)، فيما يؤكِّد أساتذة علم الآثار في غزة أنَّ تل السكن مدينة بناها الكنعانيون من الطين المجفَّف يُسمَّى (الكحلة).

في العام 1994 وقَّع الرئيس الشهيد ياسر عرفات مع الرئيس الفرنسي الراحل (جاك شيراك) اتفاقية للتنقيب عن الآثار في هذا الموقع التاريخي الذي اعتبره خبير الآثار (جون باتيست رئيس) البعثة الفرنسية: "أقدم استيطان بشري في جنوب فلسطين، ومن أوائل المدن المسوّرة في جنوب فلسطين وأهم موقع أثري في غزة".

 اليوم بكى (جون باتيست) على ضحية الجريمة (تل السكن) فيما أنياب الجرافات تنهش من جسد مكون ثقافي وتاريخي ليس للفلسطينيين وحسب بل للإنسانية، حيثُ كانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" تخطط لاعتباره واحدًا من المعالم الأثرية العالمية، فتحت التراب آثار كنعانية، فسارع بكتابة رسالة لقسم الآثار في الجامعة الإسلامية نشر نصها وصورتها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة.

عُثِرَ في تل السكن على بقايا منازل وجدران ومحلات، وأسطح مبنية بالطوب الأحمر وأسوار معمارية من الطوب اللبني، ونظام عمارة للأسوار، لا مثيل له على مستوى العالم، وكذلك على فخار مصري الصنع (فرعوني) وفخاريات كنعانية صنعت من الطين المحلي ولكن على طراز مصري فرعوني، فاعتبرها المختصون هجينة.

تجمع الآثار المصرية الفرعونية وآثار كنعانية، كالسلطانيات والأطباق والصحون والأباريق، وزجاجات ذات عنق ضيق، وجرار بيضاوية الشكل. وأحواض للاستحمام، ومزهريات أسطوانية، جرار كبيرة، وسبع واجهات لقصور، تعود إلى السلالة الأولى من الأسر المصرية، والتي أسَّسها نارمر، إضافةً إلى قطع أختام أسطوانية، حملت أشكالاً لحيوانات عُرفت منذ العصر المبكر من التاريخ، وتمثال ضفدع من الحجر الجيري الناعم، علمًا أنَّ مثيلها قد وجد في معبد أبيدوس في مصر، أمّا الطواحين الكنعانية فمنحوتة من حجر البازلت الكركاري، وما دل على حياة سكانية عملية.

كأنصال حجرية كنعانية، وآلات الكشط والسكاكين والفؤوس ورؤوس السهام. وعظام الأسماك والمحار وعظام حيوانات من مراحل حضارية كالثيران البرية والإبل الأحمر والغزلان وفرس النهر. فيما تدل الآثار على استخدام السكان الكنعانيين منتجات الحليب والأصواف، أمَّا الجدران فكانت من الطوب المزجج من العصر البرونزي الحديث، بارتفاع 4 متر، وعرض 10 أمتار، ولا يوجد لها مثيل في المواقع الفلسطينية الأثرية مجتمعةً.

الآثار في فلسطين أهم عوامل انتصارنا في معركة إثبات الهوية والوجود، وجذورنا التاريخية، فنحن من طين هذه الأرض الطيبة المقدسة أمَّا مَن يُدمّرها، وليس منا من لا يراها إلّا مجرد أوانٍ فخارية، فمنظور هذا للحياة مكسور ومنكسر أبدًا.