بقلم: عمر حلمي الغول  

   أعلنت الولايات المتحدة الأميركية انسحابها من منظمة التربية والعلوم والثقافة (يونسكو) يوم الخميس الماضي، متذرّعةً بأنَّ المنظمة الأُممية "تُدار بطريقة منحازة ضدَّ (إسرائيل)". وقالت هيذر ناورت، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية إنَّ "القرار لم يُتَّخَذ بسهولة، ويُسلِّط الضوء على مخاوف الولايات المتحدة من تزايد ديون اليونسكو، وضرورة إجراء إصلاحات جذرية في المنظمة من استمرار الانحياز ضد (إسرائيل)". ولحقت بها حكومة نتنياهو، وأعلنت انسحابها من المنظمة الأممية، حيثُ يلاحظ أنَّ أميركا تزاود على "إسرائيل" في دفاعها عن سياساتها الاستعمارية، وتبادر لاتّخاذ قرارات متناقضة جذريًّا مع دستور وقيم الولايات المتحدة نفسها. وهي ليست المرة الأولى التي تنسحب فيها أميركا من المنظمة، حيث انسحبت العام 1984، وتلتها بريطانيا عام 1985، بذريعة أنَّها آنذاك كانت منحازة للشيوعية. ولكن كلّاً البلدين عادا لليونسكو (بريطانيا عام 1997 وأميركا 2003).

   كما أنَّ أميركا جمَّدت دعم موازنة "اليونسكو" منذ عام 2011. وتُقدَّر مساهمتها بـ80 مليون دولار أميركي سنويًّا، وهو ما يعادل خُمسَ الموازنة العامة لليونسكو. ومع ذلك تابعت المنظمة الدولية مهامها من دون توقف، رغم تأثرها السلبي من الانسحاب الأميركي في كل مرة تغادر فيه موقعها كعضو فاعل. لاسيما وأنَّ اليونسكو تؤدي مهامها التربوية والثقافية بعيدا عن السياسة من خلال 50 مكتبا وعدد من المعاهد التدريسية، بالإضافة لخمسة برامج أساسية تعمل عليها في مختلف دول العالم، وهي "التربية والتعليم، العلوم الطبيعية، العلوم الاجتماعية والإنسانية والثقافية، والاتصالات والإعلام". وتساهم في العديد من البرامج والأنشطة، منها: (محو الأمية، التدريب التقني، تدريب وتأهيل المعلمين، المشاريع الثقافية والتاريخية، اتفاقيات التعاون العالمي للحفاظ على الحضارة العالمية، التراث الطبيعي وحماية حقوق الإنسان). أضف إلى ذلك، اعتمدت اليونسكو في تشرين الثاني عام 1972 الإعلان عن لائحة مواقع التراث العالمي، التي تعتبر ذات أهمية خاصة للشعوب التي تختزن أوطانها إرثًا حضاريًّا، وهو ما يُعزِّز ويُعمِّق مكانتها وهُويّتها القومية على أوطانها، ويضيف بُعدًا مهمَّا لإنجازات الحضارة العالمية، وتعمل اليونسكو على دعم وحماية تلك المواقع من خلال تبنيها في اللائحة.

   الانسحاب الجديد يكشف بؤس وعقم سياسة الإدارة الأميركية القائمة، لأنَّها كشفت عدم توازن في سياساتها العدوانية على منظمة التربية والعلوم والثقافة، ومقرها باريس. لاسيما أنَّ انسحابها الآن يأتي بذريعة أن المنظمة "منحازة" للشعب الفلسطيني، وتعمل ضدَّ "إسرائيل" الاستعمارية. وهذا بحد ذاته يميط اللثام عن عجز الولايات المتحدة في رعاية عملية سلام حقيقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. خاصّةً أنَّ إدارته تدعم بشكل واضح الاستيطان الاستعماري على الأرض الفلسطينية، وهو ما يُؤثّر على الكشف عن الإرث الحضاري الذي تختزنه الأرض الفلسطينية المحتلة، فضلاً عن تدمير ما هو موجود، أو نسبه لدولة الاستعمار الإسرائيلية. فكيف يمكن لواشنطن أن تكون راعيًا نزيهًا وموضوعيًّا في ظلِّ ملاحقتها للمنظمات الأممية التي تدعم الحقوق الوطنية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية ومرجعيات عملية السلام؟ وكيف يمكن للشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية الوثوق بإمكانية تبني إدارة ترامب صفقة سلام عادلة في ظل انحيازها غير المشروع لدولة الاستعمار الإسرائيلية؟ وهل مطلوب من دول العالم أن تضبط تصويتها وقراراتها وفق الأجندة والرؤية الأميركية الإسرائيلية كي تكون المنظمات الأممية غير منحازة؟ وكيف لدولة تدعي أنها راعية حقوق الإنسان والديمقراطية، تطارد الدول والمنظمات الدولية والشعوب في حقها بالتعبير عن قناعاتها وفق مواثيق وقوانين الشرعية الدولية؟ ومن الخاسر من خروج أميركا من اليونسكو؟ أليست الولايات المتحدة نفسها والتعددية والديمقراطية؟

   حرب الولايات المتحدة على اليونسكو، حرب باطلة ومعادية للسلام، وحقوق الإنسان، وللعدالة الإنسانية، وقبل كل ذلك للأمم المتحدة وقوانينها ومواثيقها وأعرافها، التي أسهمت في وضعها وصياغتها المؤسّسات وممثلو الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ تشكَّلت منظمة اليونسكو في العام 1945، وأيضًا هي حرب مكشوفة ومفضوحة على الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه العادلة. وعلى إدارة ترامب إعادة النظر في سياساتها إن شاءت أن تكون- فعلاً لا قولاً- راعيًا للسلام وصانعة لصفقة العصر التاريخية لبناء ركائز تسوية سياسية تستجيب للحد الأدنى من الحقوق السياسية الفلسطينية. وأن تكفَّ عن مهاجمة منظمات الأمم المتحدة ومنها اليونسكو ولجنة حقوق الإنسان وغيرها من المنابر الأممية.