في الورقة التي قدَّمتُها في المؤتمر السادس لمركز مسارات للأبحاث والدراسات حول الوحدة الوطنية كانت الأجواء المبهجة قد عمَّت أهلنا في قطاع غزة مع وصول الحكومة، ثم مع أخبار اللقاء اللاحق في القاهرة بين وفد فصيل "حماس" وحركة "فتح"، وتزعُم صالح العاروري للوفد الحمساوي الذي حسب معلوماتنا المؤكدة أعطي الصلاحيات الكاملة لاتخاذ القرار.
ومع الأخبار المبهجة لخطوات المصالحة، وفي ظل انعقاد مؤتمر مسارات تحدث خليل الحية في المؤتمر عبر الاتصال المرئي من غزة ما رأيته انحرافا عن المسار الايجابي، والذي بدلا من أن يتخذ من المؤتمر منصة دعوة للوحدة الوطنية ومد اليد أعاد بناء خطابه ضد التفرد وضرورة المشاركة من موقع المتفرد الذي يرفض المشاركة! ولاسيما اصراره على مصطلح عجيب غريب هو "تعايش البرامج" على سبيل المثال.
وفي المؤتمر انتقدنا هذا الخطاب الاقصائي، وقلت أنه لو قدر لإسماعيل هنية الحضور والحديث لقال بغير هذه اللهجة الاستعلائية التي ترفض التفرد والاستبداد وتمارسه، كما اشيرهنا أن الاختلاف بين برامج الفصائل لا يعني أن يكون البرنامج الوطني العام مختَلفا عليه أبدا بل وجب أن يتوحد الجميع نحو (البرنامج الوطني العام) ولا ندعو لما أسماه الحية تعايش البرامج.
عموما حاولت في ورقتي المقدمة للمؤتمر أن أستعرض الإجابة عن السؤال القائل: هل نحن كحركة "فتح" وفي "حماس" مؤهلين، أو فينا من عوامل التغيير ما يؤهلنا للتوجه نحو المصالحة؟
فيما يتعلق بحركة "حماس" اعتقد أنها قطعت شوطا طويلا باتجاه التغيير على مدى 30 عامًا تقريبًا من أصدر ميثاقها عام 1988 حتى العام 2017 وربما أكثر منذ وجود "الاخوان المسلمين" في فلسطين منذ العام 1945، في جميع الاحوال فإن التغيير وقع في اتجاهات ثلاثة على الأقل.
فحركة "حماس" هرولت وراء السلطة والنفوذ منذ العام 2006 فتفوقت على حركة "فتح" الى حد البطر والفساد فلم يحصل الاصلاح وحصل التغيير، ورغم ذلك استطاعت ثانيا أن تحكم غزة بالحديد والنار فتحافظ على هدوء الحدود عسكريا مع الاسرائيليين (التنسيق الامني) ، وثالثا أثبتت قدرتها الأمنية بالاتجاهات المختلفة داخليا واسرائيليا ومصريا فحصل اللقاء مع مصر.
وإلى ذلك استطاعت "حماس" سياسيا أن ترد الشُبهات السياسية بالانتماء للاسلاموية المتطرفة وشبهة انها تريد تدمير "اسرائيل".
كما استطاعت البدء بنواة التنظير لفصل الدعوى عن السياسي فيما هو طرح جديد لمفهوم الدولة المدنية كما جاء في وثيقة حماس 2017 بل وإن الربط مع "الاخوان المسلمين" بدا وهيا من الزاوية التنظيمية لا الفكرانية، وقفزت حماس بين جبلين بينهما حيث تبنت سياسيا مفهوم الحرب على (الارض) (وليس الحرب الدينية كما كان ينص الميثاق للعام 1988) فاعتبرت أن الصراع على الارض بوضوح بنص الوثيقة الهامة لخالد مشعل، عدا عن التأكيد على ان "حماس" فصيل وطني، ما يسقط كليا المفهوم المخادع المسمى (القوى الوطنية والاسلامية) وغير ذلك من نقاط سياسية أسهبنا في شرحها في دراستنا حول الوثيقة بمعنى آخر أن "حماس" أصبحت مؤهلة أمنيا وسياسيا وفي إطار حراكها الذي اتسعت مساحته ضمن انشغالات المنطقة بمآزقها وبتحالفاتها أن تتوجه حقا نحو المصالحة ضمن رؤيتها.
استطاعت "حماس" حفظ الأمن بغزة فانتبه لها الاسرائيلي بعد حروب ثلاثةن كما انتبه لها المصريون، وأدامت نظامها السلطوي/الاستبدادي مالم يختلف عن كثير من أنظمة العالم الثالث، ومررت "الوثيقة" بسهولة دون عقبات او انشقاقات، وليس كما حصل مع حركة فتح في العام 1974.
تحدثت عن حركة فتح بالاتجاه الآخر فهي حركة ليس جامدة ولا متكلسة لذا فإن التغيير والتجدد فيها يقع بسهولة أكثر وهو ما حصل في فكرها السياسي يتبنى الواقعة السياسية مبكرا منذ العام 1974 أي في أقل من 10 سنين من انطلاقتها ، وثانيا فإن التجدد في حركة فتح وهو أحد سماتها يرتبط بالمبادرة إن نجحت يتم تبنيها وإن فشلت تُنسب لصاحبها، ومنبع قدرة فكرها وسياساتها وبرامجها على التجدد هو انها لا تمتلك فكرانية (ايديولوجية)، وفي النقطة الثالثة استطاعت حركة فتح أن تكرس مفهوم الوحدة الوطنية بالقدرة على التعامل مع المتناقضات من خلال إدارتها التباينات في منظمة التحرير الفلسطينية ومحاولة صهرها في برنامج اجماع وطني عبر المجلس الوطني الفلسطيني الى زمن قريب. ورغم ذلك فإن عوامل الضعف لدى الحركة تتمثل بارتباك السياسات أو التعبير عنها، وضعف الصلة بالقاعدة وشكوك انقضاض الجماهير.
ما يستدعي منها بناء على ما سبق، وما يستدعي من "حماس" التوجه ركضا نحو المصالحة خاصة في ظل ما نعرفه من ضيق الخيارات السياسية والاقليمية في مواجهة الأصفر والاخضر.
إن خيار المصالحة يحتاج لأطراف تمكنت من التغيير، وهذا ما أشرت لبذوره في الورقة لدى كل من حركة "فتح" و"حماس" سواء العوامل الايجابية أو السلبية فكلاهما يصبح دافعا نحو المصالحة، التي وجب ارتباطها بوثيقة 2005 و 2011 للمصالحة ووجب توجه الاطراف جميعا وعقد المجلس الوطني الفلسطيني.
الخوف من افتعال الأزمات وتفوق تيار التخريب للمصالحة وارد، لأنَّ عقلية الاستبداد والتفرد والفسطاطين/المعسكرين التي يعيبها البعض على الأخر هي سمة لدى "حماس" بالتعبئة الداخلية، وفي أبعاض حركة "فتح" حيث يجب أن يكون الايمان الوطني الجامع بالاقتراب والتفهم والتجاور والتشارك هو الأساس، ثم بناء الثقة التي تظهر بالخطوات المتتالية، وبتوفر الإرادة الحرة نتخذ القرار.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها