لقد كانت الإشارات التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تمثل إنحيازاً صارخاً لصالح إسرائيل، وتتبنى مواقف اليمين الصهيوني وبشكل سافر، سواء من مسألة الإستيطان إلى مسألة القدس، إلى الإلتزام المطلق بأمن إسرائيل، طبعاً التصريحات والمواقف السياسية للمرشحين للإنتخابات دائماً تهدف إلى غرض أساسي واحد وهو تجميع الأصوات الناخبة لصالحها أكثر من أي هدف آخر، ولا تكشف بالضرورة عن سياسات حقيقية لهذا المرشح أو ذاك إلا بالقدر الذي يحقق الهدف وهو الفوز بالإنتخابات الذي يخوض غمارها هذا المرشح أو ذاك.

موقع الرئيس في النظام الأمريكي لاشك أنه رأس السلطة التنفيذية، ويحتل موقع الصدارة بين المؤسسات الفاعلة والناظمة للقرار الأمريكي، بجانب المؤسسات الأخرى الناظمة للنظام في الولايات المتحدة، ومنها الكونغرس، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، والبنتاغون، ولا ننسى تأثر مواقف هذه المؤسسات بمجموعات المصالح (اللوبيات) التي تسعى للتأثير في القرار السياسي لخدمة مصالحها، سواء هذه المجموعات ذات أبعاد إقتصادية أو سياسية أو إثنية، فهناك لوبيات النفط، ولوبيات الصناعات العسكرية، واللوبيات اليهودية والمسيحية المتصهينة ... وغيرها من المجموعات ذات المصالح، والتي تمثل محصلة تأثيراتها القرار أو الموقف لأمريكا، الذي يعبر عن المصالح التي قد تبدو أحيانا متعارضة ولكنها تمثل في نهاية المطاف المصلحة العليا للولايات المتحدة الأمريكية، فإذا ما تم الإصطفاف والتوافق بين هذه المؤسسات متخذة القرار ومجموعات المصالح ذات التأثير في قراراتها، إزاء قضية ما داخلية أو خارجية، عسكرية أو سياسية، إقتصادية أو غيرها ... فإن تلك المسألة أو القضية تأخذ طريقها للحل عبر قرارات وسياسات تتوافق بشأنها هذه المؤسسات الممثلة للنظام الأمريكي إزاء العديد من القضايا والمسائل، لذلك اليوم بعد مرور شهرين على تولي الرئيس ترامب باتت تصريحاته مختلفة عن تلك التصريحات التي كان يدلي بها أثناء حملته الإنتخابية، فقد بدأ الرئيس ترامب الهبوط عن شجرة الإنتخابات، وإعتلاء شجرة المصالح القومية الأمريكية، في سياق البناء المؤسسي للنظام الأمريكي الذي يحكمه دستور شبه جامد يلزم مؤسسة الرئاسة أن تبحث عن آليات التنسيق والإنسجام مع المؤسسات الأخرى في صياغة المواقف والسياسات الأمريكية، فنقل السفارة الأمريكية إلى القدس بات مسألة مؤجلة بالنسبة للرئيس ترامب، لأنه يعرف أن الإقدام على مثل هذا الموقف والقرار سوف يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة التي تسعى إلى تطوير علاقاتها بالدول العربية خاصة والإسلامية عامة، ولما لهذا الموقف من إنعكاسات سلبية على ذلك، وأيضاً موضوع الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هناك موقف ثابت للإدارات الأمريكية المتعاقبة منه أنه لا يخدم السلام بين الطرفين، ويخلق عقبات في طريق عملية السلام، كما أن مسألة أمن إسرائيل لا يمكن ضمانها في ظل إستمرار إحتلالها للأراضي العربية والفلسطينية وإغلاق الطريق أمام الشعب الفلسطيني كي يحقق تطلعاته في إنهاء الإحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، وكذلك محاربة آفة الإرهاب في الشرق الأوسط وإبعاد شبح تأثيراته المختلفة، لا يمكن أن ينجح دون حل للقضية الفلسطينية، إن نجاح التحالف الإقليمي أو الدولي في مواجهة الإرهاب يقتضي قبل أي شيء، إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وإيجاد حل للقضية الفلسطينية على أساس مبدأ الدولتين.

على وء ما سلف يجب النظر إلى لقاء الرئيس ترامب بالرئيس أبو مازن يوم 3 مايو المقبل، والذي سبقه إتصالات مهمة ومكثفة من طرف المندوبين بين الطرفين سواء على المستوى الأمني أو السياسي، وحددت بالتأكيد هذه اللقاءات الرؤى والمواقف من المواضيع التي سوف تكون محل البحث بين الرئيسين، وتدرك الإدارة الأمريكية مدى الجدية لدى الرئيس الفلسطيني والسلطة الفلسطينية ولدى منظمة التحرير الفلسطينية وكذلك لدى الدول العربية بالإلتزام بعملية السلام على أساس الشرعية الدولية ومبدأ حل الدولتين ومبادرة السلام العربية الذي أعيد التأكيد عليها في القمة العربية مؤخراً في عمان، والرئيس ترامب والإدارة الأمريكية بات واضحاً لهم أن المواقف المتطرفة لحكومة إسرائيل سواء من الإستيطان وغيرها، لا تؤدي إلى إطلاق عملية تفاوضية ذات جدوى في التوصل إلى إتفاق سلام ينهي الصراع على تلك الأسس والمبادئ التي تقرها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، وهنا يكمن دور الرئيس ترامب والولايات المتحدة في ممارسة الضغط والتأثير على الحكومة الإسرائيلية في التخلي عن هذه المواقف المتطرفة، كي يصبح في الإمكان إطلاق عملية تفاوضية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ذات هدف واضح، وأن ينتقل الرئيس ترامب بموقف الولايات المتحدة من موقف إدارة الصراع، إلى موقف العمل على إنهاء الصراع، وإنجاز حل عادل ومقبول، يسجل من خلاله الرئيس ترامب إنجازاً مهماً لسياسته الخارجية عجز عنه الرؤساء السابقين، وفوائده للمنطقة وللسياسة الأمريكية ستكون بالغة الأثر، ولا تخفى على أحد، فهل يُقدم على ذلك ؟!.

إذاً الكرة ستكون في ملعب الرئيس ترامب والإدارة الأمريكية الجديدة لتقديم موقف أكثر وضوحاً وأقل إنحيازاً وأكثر جدية في تهيئة المناخ لإطلاق عملية تفاوضية جادة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، والتأكيد على إلتزام الولايات المتحدة بمبدأ حل الدولتين المستند إلى الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، التي سيؤكد عليها الرئيس أبو مازن في لقاءه مع الرئيس ترامب يوم 3 مايو، مدعوماً بموقف عربي ودولي، ضاق ذرعاً من الإنحياز الأمريكي في إدارة العملية التفاوضية على مدى ربع قرن، وبات اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى لإنهاء هذا الصراع المزمن.