اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية بالآراء المختلفة حول قضية إضراب المعلمين في فلسطين، كما تدخلت الفضائيات وفق استغلال كل طرف للأحداث، فمن مؤيد كلي ومن مؤيد جزئي ومن مؤيد متحفظ، وما بين رافض كلي أو جزئي أو متحفظ اختلطت الأوراق، وتاه الناس في طريقة النظر لما يحصل، ولتبرز للسطح عديد الاستخدامات للإضراب ذات الطابع الانتهازي والمسيّس سواء من هذا الطرف أو ذاك، وفي هذا الخضم تبرز بوضوح صرخة على بن ابي طالب في الخوارج من بين الحشود في رام الله حينما قال (كلمة حق يراد بها باطل)!.
إن من مبادئ الديمقراطية أنها تقتضي أولا وجود مساحة كافية لحرية الرأي وللتعبير مصانة وعبر قنوات فردية أو من خلال وجود نقابات واتحادات ومؤسسات وجمعيات وجماعات وتنظيمات سياسية وغير سياسية.
ثانيا يحدد دور هذه الأطر بأنها تمثل وتنسق وتنظم وتدير وتقود الشريحة أو الشرائح في نطاق التنظيم الديمقراطي المحدد أكان سياسيا أو نقابيا أو مجتمعيا هذا ووفق النظام في التنظيم والبلد، وتقتضي أن تدافع عن مصالح ومطالب الشريحة بالطبع.
وأما ثالثا فإن من أوجب المبادئ التي يجب أن تسيّر التنظيم السياسي أو النقابي أو المجتمعي عامة في حالة مثل حالتنا الفلسطينية هي أن يمتلك الرؤية الوطنية الشاملة، حيث وجب أن يرى هذا التنظيم أو قادته وكوادره الصورة الشاملة وضوء القمر والمستنقعات وزلة القدم، وطبيعة الطريق، ويستطيع بذلك أن (يوازن) بين البرنامج والمطلب والاستحقاق، وإمكانية التطبيق أو الفوز، كما تقتضي من القائد الحلم والاستيعاب والاتزان، كما عليه أن يقدر الظرف بمقتضياته والزمن ويحدد الأولويات.
إن هذا المبدأ بالبعد الوطني الوحدوي الشمولي للرؤية إن لم يكن المحرك الرئيس لأي فعل منظم فإننا نتوه حتما ما بين المطالب المحقة والمبالغات والشطط، وما بين إدخال الصراعات الذاتية أو الأيديولوجية أو الانتهازية أو السلطوية (الاستبداد الذاتي والهيمنة) في مسار الفعل، ومن هنا وقعت الكارثة الفلسطينية وهي كارثة الانقلاب عام 2007 ما أنتج الانقسام الذي ما زال يغلق أبواب المصالحة حتى اليوم.
لا أريد ان أحاكم هذا الطرف أو ذاك، فلدى الأطراف سواء المؤيدة أو المعارضة لإضراب المعلمين الحق في كثير مما تطرحه ما يجعل من الغباش والضباب، و(الشحار، السخام) يعلق بالصورة الكاملة كما يعلق حتما بتجويف فرن جدتي.
ولأن أي محاكمة بمعنى تحديد من المصيب ومن المخطئ ليست شيئا هينّا- وإن أسرف الكثيرون من الفيسبوكيين وأضرابهم في إطلاق الأحكام ما هو جهالة أو تسرع أو نقص معلومات وتبصر- فإن النظر للصورة بشكل جزئي أي من داخل صفوف المعلمين ذاتهم، تضعك ربما في حالة التأييد الكامل لمطالبهم، رغم استغلال البعض وتماديه وخروجه عن النسق العام، ولكن النظر للصورة العامة يرعبك ويثيرك ويجعلك في حيرة من أمرك حيث الاحتلال يتكرس يوميا في أرضنا وجسدنا، والمسار السياسي متعطل، والأموال كما العادة لا تصل فلسطين إلا بالقطارة والإيرادات شحيحة، والانقلاب يدق أسافينه في كل حراك دون رحمة ولا أطيل بهذا مما هو معروف، ولكن المثير أيضا أننا نوقف إطلاق المقاومة والرصاص كليا من غزة بصراحة وقوة من أجل عيون الانتفاضة! (تصريح حسام بدران 12/3/2016) وبالمقابل يرفض الجميع احتضان وتنظيم وقيادة الانتفاضة تحت دعاوى ومبررات عدة هي في الحقيقة رفضا لتحمل الثمن.
والمثير الى ذلك أن الحراك النقابي للمعلمين يأتي في ظل (انتفاضة) أو (هبة) القدس بزخم يفوق كل فعاليات الهبة، ما لا يجوز تسخيفه أبدا بقدر ما يجب استثمار مثل هذا الحشد الرائع لإعادة تدويره ليصبح حشدا شعبيا يوميا مواجها للاحتلال في اطار تصعيد الانتفاضة والهبة.
فماذا لو تظاهر المعلمون بالآلاف عند المستوطنات التي تحاصر قرانا في نابلس أو رام الله أو الخليل؟ أو القدس وماذا لو خرج المعلمون (ولاحقا الشرائح الأخرى) إلى الحواجز التي تمزق جسدنا يطالبون بحقوقهم كما يطالبون بزوال الاحتلال والمستوطنات؟ ألا نكون بذلك قد جمعنا بين المطلبين النقابي والوطني العام في رؤية شمولية؟
درجات الاثارة والاستغلال ورفع درجة الثانويات على حساب الأولويات في مطالب المعلمين كثيرة، ولربما كان لنقص الأداء الديمقراطي داخل الاتحاد سببا واضحا كما عبر عديد المعلمين مما يجعل من ديمقراطية الاتحادات في ظل مواجهة الاحتلال المناهض للديمقراطية، وفي ظل بعض الفئات والسياسيين الفاسدين التي تقتات على ظهور النقابات هيمنة واستبدادا وتعطيلا للمسارات الديمقراطية مهمة ذات أولوية ولكن داخل الاطار النقابي ذاته وليس بالإمساك برقبة الطلاب حتى تحقق مطالبي الداخلية! فما هذه ديمقراطية أبدا ولا كانت.
لم أكن لأقبل أن يشار لحركة فتح أنها تتحكم باتحاد المعلمين أو غيره، فهي كسواها من التنظيمات السياسية مهمتها المزدوجة تحقيق الأهداف الوطنية أولا، وخدمة، نعم خدمة الشعب، وليس من خدمة الشعب صم الأذان وعدم تلبية النداء، كما ليس من خدمة الشعب التحكم الاستبدادي بأداء أي اتحاد ، وعليه فإن تقديم رئيس اتحاد المعلمين (وهو اتحاد لكل فلسطين وليس لفصيل) استقالته لحركة فتح مرفوض قطعا فهو مساءل ديمقراطيا أمام الجمعية العمومية للاتحاد لا غير، وهو وطنيا مساءل أمام منظمة التحرير الفلسطينية فلا يجوز له أو لغيره خلط الأوراق أبدا.
نعم يجب تحكيم صوت العقل والضمير والإرادة الوطنية بالنظر للصورة الكلية الشاملة والصورة من داخل غابة الأشجار معا، ونعم يجب تحقيق التوازن، وباعتقادي أن مثل هذا التوازن كان وما زال ممثلا في حركة فتح التي وان ظهر فيها حالات قبول وحالات رفض فإنها رسمت في سماء الوطن حقيقة الفكر الوطني الشمولي المتعانق مع أرادة الفعل الثورية ضد الاحتلال، ضمن التعددية والديمقراطية التي لا تهمل الحاجات المطلبية واليد ممسكة على الزناد.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها