خاص مجلة "القدس" العدد -315- تحقيق/ مصطفى ابو حرب
منذُ نكبة فلسطين في الخامس عشر من أيار العام 1948 والنكبات تتوالى على شعبنا الفلسطيني. فمن نكسة الـ1967، إلى أيلول الأسود، مرورًا بمذبحتَي تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، ثمّ حرب مخيم نهر البارد، ومن بعدها نكبة اهلنا في العراق. وها نحن اليوم نعيش نكبة اهالي مخيمات سوريا. فهل المقصود من تتالي النكبات على شعبنا ان تُمحى نكبتنا الاولى بفلسطين من ذاكرتنا؟ وكيف عايش اصحاب المعاناة الاولى النكبة؟ وكيف يواجهون مرارة وتحديات اللجوء اليوم؟

 

الحاج سليمان ابو حرب: ارضي ما زالت تنتظر عودتي
يروي الحاج سليمان ابو حرب "ابو بكر"، من بلدة شفاعمرو قضاء الناصرة، كيف اشترى البارودة الانكليزية كما كانت تسمّى انذاك بمئة وعشر ليرات فلسطينية كغيره من أبناء فلسطين وذلك للدفاع عن بلداتهم وقراهم في سنوات ما قبل نكبة العام 1948، على الرغم من أنهم لم يملكوا الجزء اليسير من هذا المبلغ، ما دفعهم لبيع القمح والغلال والماشية لأن الارض كانت وستبقى اغلى عليهم من الزاد.
ويوضح الحاج ابو بكر أن بلدة شفاعمرو كان يسكنها فلسطينيون من المسلمين والمسيحيين والدروز، لافتًا إلى أن الجميع تآزروا للدفاع عن البلدة التي كانت في حالة مناوشات بادئ الامر مع المستوطنات المجاورة.
ويتابع "لكن عصابات من المستوطنين مدعومة من جيش الاحتلال الانكليزي الصهيوني قامت باحتلال بلدة هوشة القريبة من بلدتنا وتهجير اهلها منها، عندها هجم جيش الانقاذ على البلدة لاستردادها، وشارك شباب شفاعمرو في هذه المعركة التي استمرت ما يقارب 10 ايام سقط خلالها العديد من ابناء شفاعمرو شهداء منهم جميل الصادق، وابو لويس، ويوسف شعبان، وشهيدان من آل الجمال، وغيرهم والعشرات من افراد جيش الانقاذ، وما لبثت بلدات مجاورة أن سقطت، ولاحقًا حُوصِرت شفاعمرو وأُمطِرت حارة الاسلام بالقذائف الصاروخية ما اضطر الاهالي للخروج والانتقال الى البساتين، ومن ثم الى بلدة صفورية ومنها الى كفرمندا، إلى أن استقرينا في لبنان. وبعد عام عدتُ الى شفاعمرو ومكثتُ فيها سنة، الا ان سلطات الاحتلال اعادتني الى لبنان، وسُلِّمت الى السلطات اللبنانية التي اعتقلتني وسجنتني وغرمّتني بخمسين ليرة بتهمة تجاوز الحدود. وهكذا أخذنا نتنقّل من مخيم الى آخر في الاراضي اللبنانية حتى حطت بنا الرحال في مخيم شاتيلا في بيروت، ومرّت علينا، كما كل فلسطيني، ظروف لا يعلم بها الا الله، ولكن كانت فلسطين وأمل العودة اليها موجود معنا في كل لحظة، لذا رفض الكثيرون منا الجنسيات المختلفة التي عُرِضت علينا وحتى أنني لم انزل لسوق العمل إلا بعد أن نفدت مدخراتي ظنًا أن أيام معدودات تفصلنا عن العودة.
ولكن بعد ان طال بنا الحال اعتمدنا على انفسنا، وانصبّ تفكيرنا على تعليم اولادنا وإعدادهم للمعركة القادمة لأننا أيقَنّا أن معركتنا مع هذا العدو تحتاج الى العقول والبنادق، وقد نجحنا بذلك. فالى جانب البندقية في بيتي كان الكتاب والقلم، وكما كنتُ في فلسطين مدافعًا عن البيت والحاكورة والارض، زادت في لبنان همّتي لإعداد اولادي لاستكمال المسيرة، وكانوا كما اردت طليعيين في انتمائهم النضالي لفلسطين وحاضرين للدفاع عنها والعمل لاستردادها".
ويردف "عدت الى فلسطين في العام 1993 عن طريق الصليب الاحمر بتصريح زيارة لابني الاسير آنذاك، وذهبتُ الى شفاعمرو ورأيتُ بيتي وقد سكنه غيري، وتأمّلتُ جدرانه ونوافذه والأبواب، وكم كانت صعبة تلك اللحظات التي طرقت فيها باب بيتي ليفتح لي ساكنه ويسألني: من انت؟ هل انت غريب؟ لحظتها لم استطع ان اتكلم، فأملت رأسي ومشيت كي لايرى دمعة انهمرت من عيني".
ويختم أبو حرب حديثه قائلاً: "بيتي وأرضي ما زالا ينتظران عودتي، ورغم أنني شارفت على السابعة والثمانين عامًا الا ان املي كبير بالله، وبأن العودة الى الديار باتت قريبة كما لو اننا نرفع قبضاتِنا لنطرُقَ الباب".


ابراهيم نصر: لن يضيعَ حقٌ وراءَه مُطالِب
غادر ابراهيم عبد المنعم نصر، ابن قرية داراس قضاء المجدل، فلسطين برفقة عائلته وهو ابن اربع سنوات محمولاً على كتفَي والده الذي كان يجر خلفه تسعة اولاد وزوجة مكلومَة يتفطّر قلبها حزًنا على ترك البيت والسير نحو المجهول.
"كنتُ صغيرًا لكنني كنت اميّز وجوه عائلتي العابسة التي كانت بالامس القريب لا تنفك تبتسم وتضحك لي"، يقول نصر، ويضيف "مكثنا في المجدل لأيام، ثم غادرنا البلدة تحت القصف الصهيوني حتى وصلنا الى رفح على الحدود المصرية، وهناك اقمنا، ومرّت الايام وسط معاناة وأسى، فكبرنا غصبًا عنا ومفاتيح الدار معلّقة في صدر امي واوراق الارض في محفظة ابي.
تعلّمنا في خيم سمّوها مدارس، وبعد انهائي دراستي الابتدائية والتكميلية انتسبتُ الى معهد التعليم المهني في غزة في العام 1965، ثم انتقلتُ الى مصر لمتابعة دراستي، وهناك انتسبتُ الى جيش التحرير الفلسطيني كي اقوم بواجبي تجاه وطني لطرد المحتل الصهيوني من ارضي،  وكنا نقوم بأعمال فدائية ما أدّى الى اعتقالي من قِبَل السلطات الصهيونية، وتم ترحيلي الى الاردن في العام 1968. انتسبتُ الى حركة فتح في جرش في الاردن، ومنذ ذلك الوقت وانا اتنقّل من موقع لآخر دفاعًا عن الثورة وسعيًا وراء تحقيق هدف تحرير فلسطين وانجاز حلم العودة الى البيت والدار في داراس".
ويقول متابعًا "فلسطين ليست حكاية نرويها لاولادنا أو مرثية يجب ان نمزق الثياب عند سماعها، وانما هي الامانة التي سوف يُحاسَب كل مقصّر عن الحفاظ عليها والعمل على تحريرها من المحتلين. لذلك انا أوصي اولادي بفلسطين حتى أنني رسمتُ في عقول احفادي ومخيّلتهم صورة البيت والحاكورة وعدد الشجرات فيها. وبعد 67 عامًا من التهجير للشعب الفلسطيني لا بد أن يعود الحق لأصحابه لأنه لن يضيع حق وراءَه مُطالِب".


الحاج تيم العالي: تركنا طبريا وفي القلب غصة
استهلّ الحاج تيم يوسف العالي "ابو هيثم"، من اهالي مدينة طبريا، حديثه مستذكرًا كيف كانت فلسطين ارض الخيرات وملجأ كل محتاج، يتوافد إليها الناس من كل الدول العربية للعمل كما يذهبون اليوم الى دول الخليج.
وأضاف بحسرة "كنا نعيش بسعادة في أرضنا التي رويناها بعرقنا ودمنا. كانت الأفراح تملأ البيوت، حتى العرس كان يستمر ستة ايام تعليل وسحجة وسهرات تستمر طيلة الليل، وموائد عامرة، وكانت القرى والضِّيَع كلها تُدعَى للمشاركة بالعرس، وكان الجميع يأتون بالذبائح والحنطة والقهوة لأصحاب العرس، إلى جانب غيرها من المراسم، كالحلاقة في بيت احد الاقارب او الاصدقاء، وزف العريس الى بيت اهله، بالسحجة والدحية واغاني اخرى، لتناول الغداء مع المدعوين ولا ينتهي العرس الا في ساعات متقدمة من الليل. وحتى الاتراح في فلسطين كانت تجمعنا أهلًا وأصحابًا وجيران، فكنا نبكي سويًا ونفرح سويًّا".
واستكمل "تركنا طبريا وفي القلب غصة. وصلنا إلى وادي الرقاد في حوران في سوريا، ثم انتقلنا الى وادي السمك ومنه إلى اليرموك حيثُ بنينا وعمّرنا بيوتنا. وقد خدمتُ في كل مواقع الدفاع عن الثورة فناضلتُ في معركة الكرامة، وكنتُ من المجموعة التي فجّرَت جسر الشريعة، وعملتُ ضمن المجموعات التي كانت تنزل من مارون الراس الى فلسطين في السبعينيات، كما خدمتُ في موقع الثلاثة والعشرين، وقدّمت احد اولادي شهيدًا في صفوف جيش التحرير الفلسطيني".
غير أن العالي حين وصل للحديث عن نكبة اليرموك لم يتمالك نفسه فبكى، لأنه رأى أن نكبة فلسطين جمعت الفلسطينيين في مخيمات على قساوة العيش فيها، ولكن ما ألمّ بسوريا أعاد تفريق شمل العائلات، وأضاف "نعيش اوضاعًا صعبة بكل المقاييس. لقد خسرنا البيت والولد وثلاثة شبان وست بنات كلهم هاجروا، ولم يبقَ سوى أنا والختيارة. لقد خرجتُ من فلسطين ولي من العمر ثمانية عشر عامًا، وها انا قد زرّفت على الثمانين ولم يتحقق أملي بالعودة، فهل سأنتظر أيضًا مثل هذه السنوات كي اعود الى بيتي في مخيم اليرموك هذا إذا سُمح لي أصلاً؟!".


الحاج ابراهيم الحاج محمد: بعد 8 سنوات ما زلنا مشردين من بيوتنا في نهر البارد!
يروي الحاج ابراهيم الحاج محمد "ابو عماد"، من بلدة كفرعنان قضاء عكا، رواية تهجيره من فلسطين فيقول: "كان عمري ثماني سنوات عندما هُجّرنا من قريتنا، واذكر تماماً كيف جمعَ الجيش الصهيوني اهل البلدة تحت الشجر وخيّروا الاهالي بين البقاء مع اليهود او الذهاب الى العرب، فاختار اهل بلدتنا ان يأتوا الى العرب الذين كانوا اصحاب المؤامرة الكبرى وهم من ضيّعوا فلسطين. ولم يتمكّن جيش الانقاذ أن يحمي بيوتنا او يحفظ فلسطين، ولو ان اهل قريتنا كذبوا على الجيش الصهيوني واختاروا ان يبقوا تحت حكم اليهود لبقينا في بلدتنا شوكة في عيونهم، ولما ذقنا مراراة العيش كالايتام على مائدة اللئام في مخيمات أُعّدت سلفًا لاستقبالنا. واذكر تماماً الايام الصعبة التي عشناها، متنقلين بين منطقة واخرى في لبنان حتى حطت بنا الرحال في مخيم نهر البارد الذي بنينا فيه بيوتنا، وأسسنا فيه قاعدة عودتنا الى فلسطين، ولكن بين ليلة وضحاها هبّت علينا ريح سموم لا نعرف مصدرها فنُكبنا مرة اخرى ولكن هذه المرة كانت صعبة، وها نحن بعد ثماني سنوات ما زلنا نعيش مشرّدين نتقي ذل السؤال بعد تخلي القريب والبعيد عنا، والكل يسأل اليوم اذا كانت ثماني سنوات غير كافية لبناء سوى ثلث البيوت التي تهدمت في المخيم، فكم سنة يحتاج اعمار باقي بيوت مخيم نهر البارد؟!".
نوال ياسين: هل ستصل سنوات انتظارنا لاعمار البارد الى سنوات نكبتنا بفلسطين؟!


أمّا السيدة نوال محمد ياسين، من سكان الرزمة الخامسة في مخيم نهر البارد، فليست أفضل حالاً من سواها، حيثُ أنها تسكن اليوم في بركسات بحنين مع 10 من افراد اسرتها، وتقول معلّقةً: "يا ريت يعطوني غرفة ودار ببيتي بدل هالقعدة في البركسات، لانها مش عيشة بشر بين الافاعي والعقارب، ولكن للأسف لغاية يومنا هذا بيوتنا لم تُبنَ بعد ونعيشُ في بيوت لا تشبه البيوت. عندما هُجّرنا من نهر البارد لم نغادر لبنان وعدنا الى المخيم ننتظر على الركام اعادة الاعمار لان مخيم نهر البارد هو سفينة العودة الى فلسطين.
واليوم ونحن نشهد ذكرى مرور ثماني سنوات على نكبة مخيم نهر البارد ومرور 67 عامًا على نكبة فلسطين بات الخوف يراود عقولنا بأن تصل سنوات انتظارنا لإعادة اعمار مخيم نهر البارد سنوات نكبتنا بفلسطين، لأن لا أمل يلوح بالأفق بقرب انتهاء ازمة المخيم واغلاق هذا الملف النازف الذي أثّر سلباً في حياة اهالي المخيم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وحتى النفسي. ولكن كل النكبات تبقى بسيطة امام نكبة الانسان بوطنه، لأن كل شيء يُشترى إلا أرض الوطن".


محمد السيد: ولدت وعشت ﻻجئا وأحلم أن أموت مواطنا فلسطينيا!
بخلاف الوارد ذكرهم، وُلِد محمد السيد لاجئًا في لبنان، وذاق مرارة اللجوء بمختلف أنواعها، حيثُ يقول: "وُلِدتُ ﻻجئًا وعشتُ ﻻجئًا وأحلمُ أن أموت مواطنًا فلسطينيًا في فلسطين، وأنا اللاجئ الممهور بخاتم اللجوء والنكبات والمآسي. نزحتُ من مخيم برج البراجنة بسبب الاجتياح اﻹسرائيلي العام 1982 إلى مخيم نهر البارد، وهُجّرتُ ثانية بسبب الحرب التي شهدها. ثماني سنوات تمر على نكبة مخيم نهر البارد مسرحية فصولها ما زالت مستمرة بدأت باعتقال المخيم من جهة غريبة عن نسيجه دخلت بتخطيط محكم ﻷجهزة أمنية إقليمية وبغفلة سكانه وانقسام فصائله ليؤخَذ رهينة ويزج به في حرب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى بالرغم من صغر مساحته وشدة اكتظاظه بالسكان، وما يثير العجب أن دوﻻً تختلف فيما بينها تتفق على الحرب في نهر البارد وتدميره وتهجير أهله. وبين ليلة وضحاها أصبحنا نعيش بين السماء والطارق ونضيع في تيه جديد. ارتقى العديد من الشهداء من المدنيين العزل وتدمّر المخيم تدميرًا كليًا. حرب البارد أضاعت أسماء الحارات واﻷحياء المسماة بأسماء بلدات وقرى فلسطين لتُستبدَل بأحرف أجنبية تطلق على القطاعات والبرايمات. وها أنا اليوم أعيش مهجّرًا في البداوي، وقد خسرتُ تعب عمر ينوف عن الخمس وخمسين سنة. فبيتي في الحي الجديد -حي جنين -الذي صار معروفا بـ"A" برايم تدمّر بما يحويه كليًا، ولم تعوّضني أي جهة كي أعيد بناء بيتي والمؤسسة التربوية المسمّاة "روضة جنين الحديثة" والتي كانت تضم روضة أطفال لتعليم مرحلة ما قبل المدرسة، ومركز تقوية لمساعدة بطيئي التعلم ومركز مصادر يحتوي مكتبة أطفال ومكتبة أشرطة فيديو حيث اعتاد طلاب المدارس ارتياده لمشاهدة الأفلام التعليمية الهادفة وليقضوا وقتًا للترفيه في حديقة اﻷلعاب في الروضة. لكن أكثر ما يؤلمني ضياع نواة متحف "الوطن والمنفى" حيث كنت أحتفظ بخمس وثلاثين قطعة من أدوات فلسطين، وسبعة عشر غرضًا استعملها اللاجئون في بدايات نكبة فلسطين، وفوق ما أضعناه، فإننا فقدنا الثقة ﻷن مسؤولين كباراً أكدوا لنا أن: "النزوح مؤقت، والعودة مؤكدة واﻹعمار حتمي"، في حين ما زلنا مهجّرين، ولم يُستكمَل إعمار سوى 34% من وحدات المخيم القديم السكنية، أمّا المخيّم الجديد فلم يُعوّض إلا على البعض وبالنذر اليسير، والأبنية المهدمة كليًا والتي كانت تأوي أكثر من مئتي عائلة لم يعمر منها أكثر من عدد أصابع اليد، هذا دون ذكر مآسي الملف الصحي وغيره والحبل على الجرار!".