بقلم: ميساء بشارات

في زاوية صغيرة من مشغله المتواضع في البلدة القديمة بمدينة نابلس، ينحني منير محروم (39 عامًا) برفق فوق قطعة خشب، ليصنع الجمال بين أنامله التي ذاقت قسوة سجون الاحتلال، لتتحول الأخشاب إلى لوحات فنية تنبض بالحياة، تحكي عن معاناة شعبه وآماله التي لن تنطفئ.

وفن الرسم على الخشب هو أحد الفنون اليدوية التقليدية التي تعتمد على تحويل القطع الخشبية إلى لوحات زخرفية، يستخدم فيها الرسامون أدوات خاصة وألوان تضفي على الخشب حياة جديدة، ما يجعله فناً يجمع بين الجمال والابتكار.

يبدأ محروم في رسم خارطة فلسطين، حيث تتداخل الخطوط بحب وشغف، لتجسد تضاريس الوطن بكل تفاصيله، وعلى وجهه تعلو ملامح تركيز عميق، وعيناه تلمعان بحلم يمتد أبعد من حدود الخريطة، إنه شاب يعرف جيداً معنى الحرية، لأنه دفع ثمناً غالياً لها.

نشأ منير في أحد أحياء البلدة القديمة بمدينة نابلس، وسط أجواء وطنية رسمت طريقه منذ الصغر، واعتقل منير في ريعان شبابه، وقضى سنوات من عمره خلف القضبان، حيث عرف قسوة الاحتلال وقوة الإرادة.

خلال فترة اعتقاله، وجد منير في الرسم ملاذاً يخفف عنه وطأة السجن، وبدأ ينمي موهبته في الرسم على الخشب في أوقات الفراغ التي يقضيها بالسجن، مستعيناً بمواد بدائية متوفرة في السجون مثل المسمار وشفرة البراية للرسم على بذرة ثمار الأفوكادو.

وكانت رسوماته تعبر عن شوقه للحرية وعشقه للوطن، ووسيلة للتعبير عن مشاعره المكبوتة، لتخرج من السجن كهدايا لأهالي وأصدقاء المعتقلين خارجه.

- البداية من جديد

بعد تحرره، لم يستسلم منير لآثار السجن، بل اختار أن يحول الألم إلى إبداع، اتجه للعمل في الرسم على الخشب، مستلهماً أفكاره من التراث الفلسطيني والطبيعة. يقول منير: "كل قطعة خشب تحمل قصة، وأنا أحاول أن أروي هذه القصة برسوماتي".

لوحات منير الأب لأربعة أطفال تمزج بين الفن والتراث والحداثة، حيث تجد فيها كل ما يدل على التراث الفلسطيني، يعمل لساعات طويلة في مشغله الصغير، متنقلاً بين أدواته وأخشابه، ليخرج في النهاية بلوحات تحمل روح الوطن.

ويعتبر منير أن فنه ليس مجرد وسيلة للرزق فقط، بل رسالة للعالم. يقول: "الرسم هو صوتي، وهو طريقتي لنقل معاناة شعبي وأحلامه بالحرية والاستقلال".

لم يكن الطريق سهلاً أمامه، فقد واجه وما زال يواجه تحديات كثيرة في عمله كرسام على الخشب، فإلى جانب الصعوبات الاقتصادية التي تعصف بمدينة نابلس، يجد منير نفسه محاطًا بعوائق إضافية، يقول منير: "الإغلاقات المتكررة للحواجز التي تطوّق المدينة من جميع الاتجاهات، هذا الحصار يحول دون دخول المتسوقين، ويُضعف الحركة التجارية والسياحية، ما يؤثر بشكل مباشر على تسويق أعمالي".

ويعتمد منير في تسويق أعماله بشكل كبير على السياح والمتسوقين والزائرين من خارج المدينة، والذين يبحثون عن هدايا تعكس روح فلسطين، بالإضافة إلى الإقبال على لوحاته كهدايا رمزية خلال المناسبات الوطنية والاجتماعية، لكن الأوضاع الأمنية وعدم شعور الزائرين بالأمان للتجول في أسواق نابلس تقف حاجزاً أمام وصول منتجاته إلى جمهور أوسع.

ورغم كل ذلك، لا يزال منير متمسكاً بمبادئه وإيمانه بفنه، مؤكداً أن "الفن مثل الحرية، يحتاج إلى صبر وكفاح.

يتحدث منير عن عملية تأمين المواد الخام، قائلاً: "مصدر الخشب لدي إما أن أجلبه من الأشجار بنفسي، أقوم بقصّه وتشكيله بيدي، أو أشتريه خاماً من تجار الأخشاب".

ويتابع: أن الخشب يمر بمراحل دقيقة من التقطيع والتشكيل لتتناسب مع الأذواق المختلفة، ويسعى منير دائماً لمزج روح التراث مع لمسات حديثة في أعماله، ما يجعلها مناسبة للجميع وتلبي احتياجات السوق.

- منير نموذج للأمل

تحول منير محروم إلى قصة نجاح تلهم الكثير من الشباب، هو دليل حي على أن الإنسان يمكنه أن ينهض من تحت الأنقاض، وأن يحوّل المحنة إلى منحة.

يقول محروم وهو يكمل ما تبقى من رسم الخارطة على لوح خشبي: "في كل لوحة أرسمها، أخط رسالة تقول لن تنكسر الروح ما دام الأمل ينبض في القلب".