في العمل السياسي الفلسطيني هناك مساحة واسعة للاجتهاد، والجمهور في العادة هو الحكم، لكن الجمهور الفلسطيني وعلى امتداد الصراع كان من السهل خداعه وإيقاعه في حقول ألغام المزايدات والعواطف، والسبب أنه شعب يعاني من ظلم تاريخي كبير، وهو متعطش للحرية، ولذلك يمكن ببساطة أن يتعلق بقشة أي طرف يطلق الشعارات ويقول أنه يريد تحرير فلسطين حتى لو كان هذا الطرف غير قادر اطلاقًا على تنفيذ شعاراته، أو أنه لا ينوي بالأساس تنفيذ ما يقول. ومع ذلك هناك حقيقة مفادها أن الجمهور يمكن أن يُخدع لبعض الوقت ولكن ليس كل الوقت.

ولعل أخطر النخب السياسية الفلسطينية هم أولئك الذين يعملون في السياسة بتمويل طرف خارجي، ويعملون وفق أجندته، حتى لو كانت هذه الأجندة تمزق وحدة الشعب الفلسطيني، وقد تهدد بتصفية قضيته. ولعل الأخطر من بين هذا الصنف من السياسيين الفلسطينيين هم أولئك الذين يقومون باتصالات سرية مع الجانب الإسرائيلي دون علم أو مشاورة القيادة الفلسطينية الشرعية، أو حتى اطلاعها على نتائج هذه الاتصالات، وهذا ينطبق على الأفراد كما الجماعات.

يمكن قبول الاجتهاد بأي اتجاه كان ولكن التماشي مع أجندات خارجية والتنسيق مع سلطات الاحتلال بسرية هذا لا يدخل في مجال الاجتهاد، إنه خرق لخطوط العمل الوطني الحمر، وهذا لا يعني بأي حال عدم إجراء حوار أو اتصال مع أوساط إسرائيلية، ولكن ليس في السر وبعيدًا عن التنسيق مع القيادة الرسمية، وهي بالتأكيد لا تعارض ما دامت هذه الاتصالات تصب في مصلحة السلام والتعايش وفق رؤية حل الدولتين أو حتى دولة ثنائية القومية، أو أي حل متفق عليه وطنيًا. هذا من جانب، أما الجانب الآخر هو البحث في اليوم التالي سواء للحرب في غزة أو بما يتعلق بمخططات ومحاولات إسرائيل إسقاط السلطة الوطنية، فهذه أمور تجري في الداخل الفلسطيني، ولا يجوز مناقشتها مع الجانب الإسرائيلي إلا في سياق موقف وطني موحد، يكون المقصود منه تنسيق عملية التنفيذ مع الجانب الإسرائيلي.

ثمة حاجة لأن تنظر هذه النخب إلى ما يجري في المنطقة، وإلى أين أخذت الأجندات شعوب الدول العربية، لقد أعادت هذه الأجندات الشعوب مئات السنين إلى الوراء. لعل أسوأ ما في المشهد هو أن تتسابق هذه النخب من أجل أن تضمن لها مكان ومكانة في الترتيبات الإسرائيلية للمنطقة. وثمة حاجة هنا إلى أن تتوقف حماس عن لعب دورها في التحدث باسم الشعب الفلسطيني، وأن تقدم نفسها بديلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي مجرد فصيل، وخصوصًا أنها هي من تسبب بالنكبة الفظيعة التي يعيشها قطاع غزة والكل الفلسطيني اليوم، على حماس أن تقر أن للشعب الفلسطيني قيادة تمثله، وما ينطبق على فصيل ينطبق على الأفراد، فليس من حق أحد أن يخوض عملية تفاوض مع الجانب الإسرائيلي بشكل منفرد، خصوصًا إذا تعلق الأمر بمستقبل الشعب الفلسطيني، وأي معارضة للقيادة الحالية يتم داخليًا بشكل ديموقراطي وبأساليب الديموقراطية السلمية.

بإمكان النخب أن تتفق أو تعارض وأن تجتهد بما يتعلق بالصراع والقضية الفلسطينية، فهذا أمر مشروع بل ومطلوب، ولكن ليس بمنطق الانقسام، أو أن يكون للشعب الفلسطيني أكثر من رأس ومن مركز قرار، كما أن الأولوية اليوم هي لوقف الحرب في قطاع غزة، وإعادة توحيد الوطن الفلسطيني، والبحث عن طرق لإعادة الإعمار، وبموازاة ذلك يمكن العمل على إجراء انتخابات ديمقراطية، تحدد من سيقود البلاد في المرحلة المقبلة. إن من بين أخطر الظواهر هي أن يتسابق بعض الفلسطينيون على تسويق أنفسهم لدى إسرائيل، فهذا الأمر لن يقود إلا إلى شرذمة الحالة الوطنية وهو ما يريده الاحتلال الإسرائيلي.

تمتين الوحدة الوطنية يتطلب الحوار الداخلي وليس فتح قنوات متعددة للتفاوض مع إسرائيل، ولعله أفضل واقع تريده الدولة العبرية هو أن يعيش الشعب الفلسطيني في كانتونات، تحكم كل منها عائلة أو عشيرة أو فصيل سياسي، وبما يتعلق بالوحدة الوطنية هناك منظمة التحرير الفلسطينية المفتوحة أبوابها للجميع، وأن يضم المجلس الوطني الجميع. هذا الأمر يمكن أن يحصل مباشرة وحتى إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فلا يجوز أن يبقى أحد خارج المنظمة ويقدم نفسه بديلاً لها، فطريق الوحدة واضح فكل ما في الأمر أننا بحاجة للإرادة، إرادة الوحدة.

أما أن تواصل بعض النخب اللعب على كل الحبال فهذا لن يأتي بالخير لأحد، إنما سيقود إلى مصادرة القرار الوطني الفلسطيني، وإلى سقوطنا جميعًا في فخ الأجندات المتصارعة في المنطقة، وهو ما سيقضي على كل الآمال بتحقيق الاستقلال الوطني.