بقلم: بشار دراغمة

تتهادى جموع المواطنين تحت شمس خجولة، تتسلل أشعتها بين وجوه شاحبة وعيون مليئة بالأسى، وسط أقدام تتثاقل على الإسفلت كأن الأرض نفسها تثقلها المآسي.

في ساحة مستشفى رفيديا، تقف الحشود في صمت يقطعه صوت صافرات الإسعاف التي تشق الهواء كسكين حاد، تحمل داخلها ما تبقى من نبض يوشك أن يتلاشى. بينما الأيدي ترفع جثمان الشهيد كاتسون صبحي ملفوفًا بالعلم، بعدما استشهد برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي في بلدة قصرة، كانت هناك نظرات تلاحق سيارة مسرعة تحمل جسد العجوز حليمة أبو ليل (80 عامًا) التي خرقت الرصاصات عمرها الطويل بلا رحمة.

لحظات وترى سيارة إسعاف ثالثة تحمل قصي سروجي (25 عامًا)، بينما الأطباء يركضون ليختطفوه من براثن الموت.

وبين حين وآخر تعبر المزيد من سيارات الإسعاف التي تنقل المصابين الذين أفلت الاحتلال عليهم رصاصه في مخيم بلاطة بكل عشوائية ومع سبق إصرار بتسجيل المزيد من مشاهد الموت.

على أسفلت ساحات مشفى رفيديا، اختلطت الدموع بالهتافات، والآمال بمرارة الفقد. الجميع هنا جاءوا ليشيعوا جثمان كاتسون صبحي، ذاك الشاب الذي خطفه رصاص الاحتلال في قصرة، حيث نقل جثمانه صباحًا من المستشفى العربي إلى ساحات مستشفى رفيديا لينطلق التشييع من هناك.

كانت الأنباء تتوارد عن اقتحام قوة احتلالية خاصة لمخيم بلاطة وما هي إلا لحظات حتى بدأ وصول سيارات الإسعاف التي تقل إصابات لمسنين وشبان.

وسط جموع المشيعين، شقت سيارة الإسعاف طريقها مسرعة، تحمل معها نبأ جديدًا للحزن، خبر استشهاد آخر، وكأن الموت هنا لا ينتظر دوره.

أما جثمان العجوز المسجى ينظر المشيعون إلى عمر طويل لم تشفع له تجاعيده، ولا عصاه التي كانت تروي قصة عزيمة لا تكسر. اخترق الرصاص الجسد الهزيل. رحلت العجوز أبو ليل وهي تحضن حكاياتها، وذكريات عن أرض كانت يومًا حرة.

بالقرب كان جثمان آخر مسجى لشاب أصغر من أحلامه، قبلها الأطباء بذلوا كل ما لديهم، ضغطوا على صدره، نفخوا في رئتيه، كأنهم يطلبون الحياة رجاءً من الموت. لكن الموت كان عنيدًا كعادته، لم يمنحهم إلا صمتًا وإعلانًا عن شهيد جديد.

داخل أزقة مخيم بلاطة، حيث تمتزج رائحة الغبار برائحة البارود، كانت آثار العملية الاحتلالية الجديدة واضحة كأنها ندوب على جسد المكان. هنا، حيث تحكي الجدران قصصًا عن صمود سكانها، وقف المواطنون يتفقدون ما خلفه الاجتياح الأخير. عيونهم مسكونة بالخوف والغضب، وأيديهم تشير إلى ثقوب الرصاص التي مزقت كل ما حولها، حتى الهواء بدا مثقلاً بالحزن.

المواطنة أم محمد أبو ذراع، التي اعتادت أن تكون شاهدة على الحياة رغم صعوبتها، وجدت نفسها اليوم شاهدة على الموت. وتقول بصوت يرتجف: "لم يكن الهدف سوى القتل"، بينما تشير إلى المكان الذي كان شاهدًا على لحظات من الرعب.

تقول أبو ذراع: إن "قوة احتلالية اقتحمت المخيم في جنح الليل، مزقت صمت الظلام بأزيز رصاصها وأصوات جنودها الذين داسوا كل شيء في طريقهم". انسحبت القوة عند السابعة صباحًا، كما لو أن الموت قرر أخذ استراحة قصيرة، لكن الفاجعة لم تكن قد انتهت بعد.

ما هي إلا لحظات حتى انتشر الخبر عن دخول قوة خاصة أخرى، كأن الاحتلال لا يكتفي من جراح المخيم، فبدأ إطلاق النار بلا تمييز، وكأن كل زاوية وكل نافذة كانت هدفًا مشروعًا.

تقول أم محمد: "الرصاص كان يعبر في كل مكان، كأنه يبحث عن مزيد من الأرواح ليحصدها". دماء جديدة أضيفت إلى قائمة طويلة من الشهداء، بينما وقف الأهالي عاجزين عن حماية أنفسهم أو أطفالهم من آلة الموت التي لا ترحم.

هكذا كان المشهد في مخيم بلاطة، جدرانًا تحمل آثار العدوان، وأمهاتٍ يندبن أبناءهن، وأطفالاً يتعلمون من جديد كيف يختبئون من الرصاص دون أن ينجحوا في ذلك فيوثق مقطع فيديو لحظات إطلاق النار على فتيين كانا يحاولان البحث عن ملاذ آمن.