لم تنتظر وزارة الخارجية الإسرائيلية طويلاً لترد بقسوة على تصريحات بابا الفاتيكان التي وصف فيها قتل الأطفال في غارة إسرائيلية على قطاع غزة، بأنها ليست حرباً بل وحشية، مضيفاً بنبرة خافتة وفيها كثير من العاطفة: "أريد أن أقول هذا لأنه يمس قلبي".
وزارة الخارجية الإسرائيلية لم تسمح للبابا بأن يعبر عن ما يجيش في صدره أو وجدانه، فأطلقت بياناً صاعقاً مرعباً اتهمت فيه تصريحات البابا بأنها "مخيبة للآمال بشكل خاص، لأنها منفصلة عن السياق الحقيقي والواقعي لحرب إسرائيل ضد الإرهاب الجهادي، حرب متعددة الجبهات فرضت عليها منذ السابع من أكتوبر، "ثم أنهت وزارة الخارجية بيانها الصاعق المرعب بالتحذير الصارم والحاسم"، كفى اتباع لمعايير مزدوجة والتصويب على الدولة اليهودية وشعبها.
وتأكيداً لهذا الموقف أو ما يندرج معه من مواقف إسرائيلية، فقد منعت قوات الاحتلال دخول بطريرك القدس إلى قطاع غزة عشية أعياد الميلاد، ضمن سياسة إسرائيلية متبعة منذ السابع من أكتوبر في منع الصحافة والهيئات والشخصيات الدولية زيارة القطاع ورؤية ما يجري فيه من فظائع.
موقف إسرائيل هذا، السريع والهجومي والصاعق، سبقه موقف وزير الشتات الإسرائيلي عميحاي شيكلي عرضه في مقال نشره في الصحف الإيطالية والذي هاجم فيه البابا بسبب كتاب أصدره الأخير ذكر فيه أن الخبراء الدوليين يشيرون إلى احتمال أن ما يجري في غزة من فظائع قد يحمل ملامح الإبادة الجماعية، فقد أكد الوزير المشار إليه أن ما ورد في الكتاب هو استهتار بمفهوم الإبادة الجماعية، وكأن هذا الوزير يريد القول أن لا إبادة إلا التي لحقت بالجماعات اليهودية وأن لا ألم يمكن فهمه والشعور به إلا الجماعات اليهودية فقط.
وغني عن القول أن بيان وزارة الخارجية وتصريحات الوزير إنما هي افتراءات على الواقع وإعادة تقديمه بمفاهيم دينية وثقافية تجد لدى أوساط غربية معينة آذاناً صاغية، فالقول أن الصراع الديني وأن جماعات اليهود هي الأحق بالحياة وهي التي تحتكر التاريخ وصناعته وروايته وأخذ أدوار الضحية والبطولة فيه في آنٍ معاً وأن ما يجري في فلسطين هو صراع بين الضوء الشارد والإرهاب السائد إنما خلط للأوراق وتخويف لمنصات الإعلام وأهل الرأي وصفوة النخبة. المهم في هذا كله أن الأمر وصل بإسرائيل أن تهاجم البابا وتسفه رأيه وتصوب كلامه وترد عليه دون أدنى رادع أو وازع، ولم لا وقد كانت استباحت كنيسة المهد عام 2002 ووجهت الكثير من الإهانات والإذلال لأماكن ورموز مسيحية متعددة، ورغم أنني شخصياً حذر في إضفاء الطابع الديني على الصراع إلا أن الجنون الإسرائيلي والتطرف فيها يدفعان الأمور إلى ذلك دفعاً، فالإفلاس الصهيوني العلماني والاشتراكي واليساري عموماً، دفع الأجيال الجديدة من الإسرائيليين إلى الارتماء في أحضان السرديات الدينية التي تعطي إجابات بالغة الفتنة لأناس خلقوا أوضاعاً بالغة السوء لهم ولغيرهم من شعوب المنطقة، ويغذيهم في ذلك جنون غربي آخر يرى في العودة إلى التفسيرات الحرفية للعهدين القديم والجديد أجوبة نهائية أفضل مما في نسخ العلمانية وطبقاتها المتعددة منذ القرن الخامس عشر وحتى يومنا هذا.
وعلى الجهة الأخرى، فقد اتحفنا مسؤول الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان بتصريحاتٍ قبل اسبوعين تقريباً خلال زيارته الأخيرة إلى تل أبيب قال فيها: إن "الأميركيين واليهود يقدسون الحياة البشرية ولهذا فهو يعتقد أن قيام إسرائيل بقتل المدنيين الفلسطينيين مبرر لأن حركة حماس تستخدمهم دروعاً بشرية وبالتالي فإن حماس هي المسؤولة عن قتلهم".
هكذا ببساطة استطاع جيك سوليفان أن يرضي ضميره والضمير الغربي والأميركي خصوصاً بالقول إن قتل المدنيين مبرر ما داموا مرتهنين بالإرهاب، وإنهم يفقدون حقهم في الحماية ما داموا قد قبلوا أن يتحولوا إلى دروع بشرية، أي أنهم يتحملون مسؤولية قتلهم أو تعذيبهم، ولكن الأميركيين واليهود يقدسون الحياة البشرية. وهو قول ينم عن كثير من الخلط والجهل والرغبة في المجاملة الرخيصة وبيع المواقف وتقديم الخدمات المجانية، ومن الواضح أن سوليفان يرغب أو يمهد لتسلمه منصباً جديداً ومهماً بعد خروجه من هذه الإدارة. وجهل الرجل ينبع من أن الأميركيين هم خليط من أعراق وثقافات مختلفة، لا يملكون هوية واحدة، ولم تستطع فكرة "الأمركة" أن تذيب تلك القوميات ولا الثقافات، وهو ما يفسر كثرة اللوبيات وجماعات الضغط، الأميركيون لديهم مصلحة جامعة وليس قومية جامعة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن اليهود أيضاً جماعات متعددة وثقافات متعارضة، ولكن سوليفان ولأسباب مصلحية محقة، يجمع كل ذلك ليقرر أن كل هؤلاء يقدسون الحياة البشرية، ومن الواضح أنه لو وضعنا هذا الكلام على المعيار التاريخي والأخلاقي لوجدنا أنه كذب صراح. تصريحات البابا وتصريحات سوليفان تعكس هذا الامتحان القاسي والصعب الذي تواجهه حضارة الغرب بكل ادعاءاتها ومقولاتها، وتفسر لنا كثيراً من المظاهر وردود الأفعال الغربية التي تسقط في هوة عميقة ليس من التردي الأخلاقي فقط وإنما من المخاطر الأمنية المحتملة.
ما بين تصريحات البابا وتصريحات سوليفان فرق شاسع، ورغم ذلك فإننا نحن الفلسطينيين الذين نكتوي بكل هذا الجنون والتطرف وازدواجية المعايير وضعف المواقف وغيابها مستمرون في الحياة، ليس أمامنا سوى الاستمرار في الحياة موقنين أن هناك رباً يدبر الكون، وأن لا إسرائيل ولا غيرها يدبران هذا الكون الفسيح.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها