مجلة القدس/  تحقيق: ولاء رشيد

لم تعُد كلمة حصار بالغريبة على القاموس الفلسطيني، بل لعلَّها أصبحت رفيقة درب بعد الحصارات التي مرَّ بها الشعب الفلسطيني. وإن كان آخر هذه الحصارات يحدثُ في غزة، فإن ذلك لا يُغيّر واقع الحصار الخانق الذي جاوزت مدته السنة على أهالينا في مخيم اليرموك، أو من بقي منهم من أُسَر مُشتَتة ما بين لبنان والمخيم السوري.

 

معاناة انسانية ذات أبعاد متعددة

ما بين الكلمة والأخرى دعوة لنُصرة غزة، وما بين الدمعة والشهقة غصة على فلسطين. وكأن حصار غزة جاء ليُقلِّب عليهم المواجع، ولِيُذكِّرهم بالألم اليومي الذي لا يبارح كل لفَتَاتهم ولحَظَاتهم. عائلاتٌ خرجَت من مخيم اليرموك، ولكنّها تركت وراءها أفرادها الذكور الذين عجزوا عن مغادرة المخيم. فخديجة "أم أحمد"، أمٌ لأربعة أبناء، ابنتان قدمتا معها، وشابان في العقد الثاني، اضطرا للبقاء في اليرموك خِشية التعرُّض للملاحقة أو للأذى.

وما يُؤرِق "أم أحمد" هو الحال الذي وصل إليه مخيم اليرموك جرَّاء الحصار، حيثُ تقول: "لا يعرف معنى الحصار إلا من عايَشه. ومهما حاولت الوصف لن أُفلِح في ذلك. فعندما أفكر في ما يتعرَّض له ولداي الآن، تنتابني حالة من الهلع. لقد عشنا وضعًا مأساويًا في اليرموك امتد لحوالي 8 أشهر الى حين تمكّنت أنا وابنتاي من الخروج إلى لبنان. أثناء الحصار بدأ انقطاع المواد الغذائية تدريجيًا، وشرَعَ الباعة يحتكرون المواد المتوفرة التي كانت فيما قبل تدخل بين المدة والأخرى، وللأسف فبعض العائلات لم تكن قد "مونت" شيئًا إما لعدم امتلاكها المال او لظنها بأن الحصار متقطع، وهؤلاء هم اول من مات جوعًا. وهكذا كنا نقتصد بالطعام حتى باتت العائلة المؤلَّفة من 10 أفراد تقتات على وجبة واحدة من الأرز أو العدس تكاد لا تكفي فردَين، وبعد توقف المخابز عن العمل، بدأنا بطحن العدس لنصنع منه خبزًا على مدى أشهر، وكنا نتناول الحبوب بشوائبها لأن تنقيتها كانت تعني اننا سنخسر جزًا من وجبتنا، إلى أن وصلنا إلى مرحلة لم يعد فيها أي نوع من انواع الطعام الصالحة للأكل متوفرًا، فبدأنا بطحن طعام العصافير هذا إن وُجِد، والجميع يعلم أن البعض خسر أكثر من 30 كلغم من وزنه. ولا زال حتى الآن يحضرني مشهد لن أنساه، حيثُ رأيت طفلةً ذات وجهٍ ملائكي تغطيها الغبائر، كانت تقف وتراقب محلاً يبيع حلويات تُصنَع من القطر الـمُستخدم للحيوانات لأن هذا الذي كان متوفرًا، ثمَّ نظرت الصغيرة حولها، وعندما لم ترَ احدًا، امسكت كأسًا بلاستيكية ملقاة على الأرض وفيها بعض ما تبقى من القطر، وأخذت تلعقها.

وتصاعدت وتيرة المعاناة في الشتاء، بسبب انقطاع التيار الكهربائي إثر استهداف أعمدة الكهرباء، ولم يكن الجميع قادرًا على الاشتراك بالمولّدات نظرًا لكلفة المازوت، فكانت التدفئة على "صوبيات"، (مدفأة على الحطب)، كنا نلقي فيها اخشابًا من أثاثنا، خصوصًا أنه لم يكن بوسعنا قطع الأشجار او الاخشاب اما لعدم القدرة على الخروج من المنازل، أو لوهن أجسادنا، فلجأنا لإحراق ملابسنا والأغراض البلاستيكية التي لا نحتاجها على الرغم من الأضرار الصحية التي يسببها إحراق هذه المواد خصوصًا للأطفال".

وتضيف "أم أحمد" بحسرة "ما أخشاه على أبنائي اليوم هو انتشار بعض الأمراض مثل التيفوئيد، والحُمى المالطية، في ظل غياب المواد الطبية والكادر الطبي، فتخيّلي أن القابلة مثلاً اصبحت هي الطبيبة وباتت تقوم بالولادة القيصرية، وأصبح اي ممرض أو طبيب غير متخصص يجري العمليات الجراحية بنفسه بل وبمعدات بدائية".

ولعلّ اكثر المتأثرين بالأحداث هم الأطفال، الذين اصيبوا بالانطوائية، حيثُ تقول كل من براءة البالغة من العمر 16 عامًا، ورغد ذات الأعوام العشرة، "أثناء الحصار انقطعنا عن الذهاب للمدرسة، ولم يعد بوسعنا الخروج من المنزل، بل إن الشوارع أصبحت كمدينة الأشباح تخلو من المارة حتى. وأصبح حلمنا أن نرى شجرة، أو سيارة مارة، لنشعر ان هناك حياة حولنا، كنا نشعر ان الموت يحيط بنا في كل خطوة وكل نفس نأخذه".

وبدورها شهدت "ام جهاد" وهي أم لأربعة أبناء، اكبرهم في الـ17 وأصغرهم في الـ12، الحصار مدة ثمانية أشهر. لم يغادر زوجها وابنها الذي لم يتجاوز الـ15 عامًا مخيم اليرموك نظرًا للمخاطر التي قد تتعرّضهما تمامًا كغيرهما من الرجال والشباب. وعن معاناتها تروي "خلال الحصار وصلنا لمرحلة أصبحنا فيها نأكل الأعشاب على الرغم من مضارها والبعض منها مسمم، الا اننا كنا مضطرين لتناولها في غياب الطعام، وكذلك كُنا نضيف التوابل إلى المياه المغلية لصنع ما يشبه الحساء، ووبسبب غياب الأدوية وانعدام الطعام، أصيب العديد من الناس بالأمراض وخصوصًا الأطفال الذين عانوا من اليرقان. وفي أحد الأيام رأيت رجلاً يأكل من النفايات، وكان المنظر مبكيًا، فقررت ان احاول مغادرة المخيم، لئلا تؤول بنا الحال لذلك. وساعدتني الصدفة على المغادرة، فتمكّنتُ من الخروج من الطريق الجنوبي من بيت سحم، وتوجَّهت إلى لبنان قاصدةً منزل أهلي الذين كانوا قد نزحوا منذُ حوالي سنة. ولكن عندما حاولت العودة إلى اليرموك بعد ان جلبت بعض الطعام والاغراض لم يُسمح لي بالدخول، فحاولت اجراء تصاريح لأبنائي ليأتوا الى لبنان، ولكن لم تتم الموافقة عليها إلا بعد شهر. وحتى بعد مجيئنا إلى لبنان لم تعطنا الاونروا اي مساعدة إلا بعد 3 أشهر، وبلغت قيمة المساعدة 250دولار، وهي لا تكفي شيئًا من ايجار ومصروف وغيره، على الرغم من أن المساعد كان يجب ان تكون فورية لأننا نعد ضمن حالات طوارئ، خصوصًا نظرًا للحالة الصحية والنفسية التي جئنا بها".

 

رسالتُنا بألا تنسوا أبناءنا

تتمنَّى كل من رغد وبراءة بأن يتمكّن أخواهما من الخروج من اليرموك ليلتئِم شمل أسرتهم، وان تعود حياتهم لما كانت عليه، وأن "يريا الحياة مرة أخرى" كما تقول براءة.

وتضيف والدتهما "أم احمد": "رسالتُنا بألا ينسى أحدٌ شبابنا وأبناءنا في اليرموك. صحيح ان بعض المساعدات ادخلت مؤخّرًا، ولكن هذا لا يحل المشكلات، فما أُدخِل ليس كافيًا في ظل المشكلات التي يعانونها وخصوصًا بسبب انتشار بعض الأمراض، وكأنهم في موت بطيء، عِلمًا ان ما يفصلهم عن المناطق الأخرى بضعة امتار".

وتختم بالقول "أكثر ما أثَّر بنا هو أننا طوال اقامتنا في اليرموك كان حلمنا فلسطين، ولم تغب فلسطين يومًا عن فعالياتنا، وحياتنا اليومية، ولكن بسبب ما حصل معنا اصبحنا نرى فلسطين حلمًا كبيرًا أشبَه بالمستحيل، واصبح حلمنا الاجتماع بأبنائنا، ومع هذا سيبقى حلمنا ووجهتنا فلسطين، ونحن متضامنون مع اهلنا في غزة وما زال الفلسطينيون حتى اليوم ينظّمون الفعاليات التضامنية مع غزة في اليرموك على الرغم من كل شيء".

وبدورها تقول أم جهاد "أكثر ما يعذّبني ان وضع ابني النفسي صعب لابتعاده عنا، والتواصل بيننا ليس دوريًا والأوضاع عندهم سيئة في غياب المساعدات، خاصة ان ما يُسمَع عن ادخال مساعدات ليس صحيحًا، فالمساعدات لا تدخل إلا نادرًا، وتذهب بمعظمها لمن له معارف وعلاقات وفي احيان كثيرة كنا نذهب للحصول على المساعدة فنعود أدراجنا دونها، أو ننتظر ساعات طوال حتى نمل، هذا علاوة على المخاطر الـمُحدِقة برحلة الحصول على كرتونة المساعدات، فإذا لم تصبك رصاصةٌ جرَّاء الاشتباكات، ستصاب جرّاء التدافع، وهذا ليس مجرد كلام، فقد ماتت امرأة أمامي بفعل تدافع الناس".

وتضيف ام جهاد "أتمنى أن يصل صوتي للقيادة الفلسطينية من أجل حل الازمة الواقعة على أبنائنا الفلسطينيين المحاصرين حتى الآن، وآمل ان يلتئم شملي بابني وزوجي".

في غزة ملعب يسمى ملعب اليرموك وفي اليرموك قلوب رغم الحصار تنبض بغزة، تنتفض وتأبى إلا ان تُعلي صوتها وتخرج بمظاهرات، وان كانت اضعف الايمان، في تعبير عن ان المآسي والصعاب مهما تكاثرت وتلوّنت، فإنها لن تنسي الفلسطينيين يومًا وطنهم، لأن فلسطين لا تنسى أحدًا من أبنائها أينما كانوا.