بعد انتهاء الشهر الأول من الحملة العسكرية الأمنية الإرهابية التي بدأتها إسرائيل بتخطيط مسبق بعد قرارها بإفشال وإنهاء المفاوضات، فإن الوضع على حاله، الموقف العربي غائب ولو بالحد الأدنى، لأن ما فعلناه بأنفسنا كأمة منذ أكثر من ثلاث سنوات، يتجسد الآن معادله الموضوعي، أمة غائبة تماماً، أمة تبدع في خلافاتها، تعود إلى حروب جاهليتها الأولى، تسلم قرارها لأعدائها، أمة لا يليق بها إلا الغياب.
وبعد شهر من هذه الحرب ضد الشعب الفلسطيني التي انطلقت من الخليل في الثاني عشر من الشهر الماضي، ووصلت إلى القدس ثم إلى كل أنحاء الضفة بآلاف من جنود الجيش يجتاحون ويقتلون ويعتقلون ويخربون محتويات البيوت ويهدمون بعضها، وآلاف من قطعان المستوطنين يقطعون الطرقات يخطفون الأطفال ويحرقونهم، يحرقون الأشجار، ويسرقون من بيوت المواطنين ما تيسر من أموالهم، بعد شهر كامل، حيث يصعد العدوان المبيت العنيف إلى قطاع غزة بمجازر متعمدة، إبادة عائلات كاملة في بيوتهم، تدمير مئات البيوت، قتل أكثر من مئة، وإصابة قرابة سبعمائة، وتدمير البنية التحتية التي هي مدمرة أصلاً، ما زال الموقف الدولي على حاله، موقف منافق، منافق إلى حد العار، منافق إلى حد أننا لم نستطع إقناع الموقف الدولي بأننا ضحايا ولسنا معتدين.
تحت سقف النيران المشتعلة ضدنا منذ شهر، تصمد وحدتنا الوطنية بصورة خارقة، وحدتنا الممتدة من أقصى شمال الجليل إلى أقصى جنوب النقب، من غزة إلى الضفة إلى القدس، من أبعد منفى إلى الوطن، حتى الأصوات المشوهة أو المخترقة سكتت وامتلأت أفواه أصحابها بالتراب، إننا شعب واحد وقضية واحدة وكيان واحد وأمل واحد وحق واحد، ولن نغادر هذه الأرض فهي أرضنا ولتذهب كل الخرافات والأساطير إلى الجحيم، وستظل القدس عاصمتنا حتى ولو استخدموا ضدنا قنابلهم النووية، وستظل قضية اللاجئين عنوان وخصوصية قضيتنا المقدسة.
ونكتشف تحت سقف النيران أن إسقاط الانقسام، والخلاص منه نهائياً، وشطبه من الذاكرة هو انتصار باهر للشعب الفلسطيني، فقد كانت إسرائيل تراهن على هذا الورم السرطاني الخبيث الذي اسمه الانقسام لكي يفتك بنا بشكل نهائي، والحمد لله أن الله منحنا القوة والحكمة لإنهاء هذا الانقسام.
تحاول إسرائيل خداعنا وخداع العالم بأنها لم تقم بعد بالحرب البرية، بالاجتياح البري، وهل كل ما حدث من أول يوم في مدينة دورا وحلحول وبني نعيم ويطا وكل محافظة الخليل كان حرباً ضوئية؟ إنها حرب برية، واجتياح، يتم بالطريقة التي ترى إسرائيل أنها أقل كلفة، قطعان من المستوطنين، وأرتال من الجنود، قصف بالطائرات من كل الأنواع وقذائف المدافع والدبابات والزوارق البحرية، اغتيالات جماعية لعائلات بأكملها في بيوتها ابتداء من عائلة كوارع إلى عائلة حمد والعملية مستمرة، واغتيالات فردية بقصف دراجات هوائية وسيارات، موت يعربد في الطرقات على يد الجيش الإسرائيلي وآلته الجهنمية، إنها حرب بكل معنى الكلمة، ولو استطعنا أن نوقف الحرب فسوف نكون نحن المنتصرين، لأننا سنحتفظ بمكاسبنا ونتقدم بها، وسنحتفظ بوحدتنا ونعززها، بينما العدو سيزداد إجراماً واتهاماً وعزلة وبشاعة إلا أن يداهمه أو ان العقاب الكبير.
لا يجب أن نلوم أنفسنا، لا يجب أن نتلاوم بيننا، نفاق المجتمع الدولي وراءه المصالح الضخمة وليس لأنه لا يعرف الحقائق، أو لأننا مقصرون في الإعلام، لا ليس الأمر هكذا، إنهم يعرفون أكثر منا ألف مرة، ولكنهم يتبعون مصالحهم ويحرفون وجوههم، ولسنا نحن المخطئين لأننا نطلق الصواريخ، وهي كل ما في أيدينا، فليس عندنا ما نتحاور به مع هؤلاء القتلة الإسرائيليين، الموغلين في الجريمة، الذين يلقب ربهم "يهوه" بلقب أمير الجند، ويطلب منهم بحسب بروتكولات حكماء صهيون أن يقدموا له القرابين في الفصح بفطائر معجونة بدماء أطفالنا، لا نملك سوى هذه الصواريخ لكي تفتح الحوار، هل كل مبادرات السلام العربية والإسلامية والفلسطينية استطاعت أن تستقطب ولو صوتاً واحداً يتحاور معنا؟
أما أنت يا غزة، يا من تخلقت في أحشائك، فأنا أعرفك وأعرف كيف تجتازين تلك المسافة الخارقة بين الفاجعة والفرح، الموت والميلاد، الرماد والقيامة.
يا غزة، أيتها القامة المنتصبة مثل علامة الله في الشريط المخنوق بين الماء والصحراء، فإنك منذ ولدت من رحم النكبة في زمانه الأزلي، تشربين ملحاً أجاجاً ولكنك تبلسمين جرحك بعسل الشفاء، ويتخلى عنك أبناء القبيلة ولكنك وحدك تهبين لتنفضي عن رؤوسهم المطئطئة تراب المهانة!!! وكل من تقوده قدماه إلى فنائك الخارق، يعجب وتاخذه الدهشة إلى حد الصدمة كيف أنت رغم كل هذا الموت تعيشين.
يا غزة، يا سيدتي المسكونة بأسرار الله، أنحني أمامك، وأقبل التراب تحت قدميك وأجلك على قدر ما تستحقين، فأنت في كل اختبار تثبتين الحقيقة المقدسة بأن إسرائيل ليست سوى فرضية زائفة.