فتح ميديا/ لبنان - خاص مجلة القدس

ما كشفت عنه قناة " الجزيرة" في شأن اغتيال الرئيس الشهيد ياسر عرفات يبرهن، مرة جديدة، كم أن أبو عمار لا يزال حاضراً بقوة بعد وفاته، كما كان حاضراً دائماً قبل غيابه. وهذا الكشف الذي يماثل الهزات الإرتدادية يعيد التأكيد ثانية أن اغتيال عرفات كان أمراً ثابتاً، لكن من غير أن يكون في أيدينا دليل مادي حاسم. ومنذ البداية كان الجميع متأكداً من أن إسرائيل هي التي اغتالته وبتواطؤ أميركي. لكن، لم يكن أحد يملك البرهان القاطع والدليل الدامغ. حتى أن تقرير النائب العام الفرنسي، وتقرير مستشفى "بيرسي" العسكري في باريس كان فيهما ارتياب كبير بموت ياسر عرفات. لكن التقريرين لم يفصحا، بصورة نهائية، عما حدث. فقد تراوحت التوقعات بين اغتياله بالسم الذي لم يظهرالبتة في تحليل خلايا الجسد، أو دس مواد غير معروفة التكوين تورثه الوهن. وفي جميع الأحوال كانت الإشارات كلها تدل على أن إسرائيل وصلت إليه أخيراً، وكان أبو عمار يردد في الفترة التي سبقت وفاته، وأمام المقربين منه: "ما يكونوا وصلولي".

 

لماذا اغتالوه؟

يبدو هذا التساؤل كأنه نقاش في البدهيات، فالجواب معروف تماماً. أما الكلام عليه مجدداً فليس من باب التزيد، بل من باب الضرورة المعرفية. فالإسرائيليون اغتالوا ياسر عرفات لأنه القائد التاريخي للفلسطينيين، ولأنه، مع رفاقه الأوائل، كان صانع الهوية الوطنية الجديدة، ولأنه المقاتل الذي أذاق الإحتلال الإسرائيلي علقماً فوق علقم منذ معركة الكرامة في 21/3/1968، بل قبل ذلك بالتأكيد، ولأنه السياسي الذي دوّخ إسرائيل ونزع عنها أردية الخداع وجعلها، أمام العالم كله، طرازاً للعنصرية المقيتة، ولأنه الوحيد الذي في إمكانه أن يصنع السلام والحرب معاً، ولأنه اختار، في لحظة تاريخية، أن يجلب السلام لشعبه، وأن يخلص الفلسطينيين من ذل اللجوء والمنافي، وكان من شأن مشروعه للسلام الشجاع أن يقضي على مشروع الإستيطان الإسرائيلي كله... ولهذا اغتالوه. ولعل أريئيل شارون أراد أن يظهر في تاريخ إسرائيل على أنه الشخص الذي قضى على ياسر عرفات من دون أن يُقال عنه دولياً أنه اغتاله مباشرة. ومع ذلك، فها إن شارون الآن، لا أحد يتذكره على الإطلاق حتى وهو "حي" بين أجهزة الحياة. بينما ياسر عرفات ما زال حاضراً في وجدان شعبه، وفي ضمير الأحرار في العالم، حتى بعد رحيله الفاجع منذ ثماني سنوات.

 

شيء من التاريخ

في اللقاء الذي جمع أريئيل شارون إلى جورج بوش في 14/4/2004 جرى الحديث عن المصير الشخصي لياسر عرفات. وكان شارون قد التزم عدم المس بحياة ياسر عرفات نزولاً عند طلبات متكررة من قادة الدول العربية والأوروبية. وفي ذلك الإجتماع قال جورج بوش: يجب أن تترك مصير ياسر عرفات للعناية الإلهية. فأجاب شارون: لكن العناية الإلهية تحتاج أحياناً إلى من يساعدها. وفي 14/10/2004 ظهرت أولى علائم الوهن على أبو عمار بعد تناوله وجبة العشاء، وأصابته حالة من التقيؤ الشديد. ولم يتوقع أحد أن تتدهور صحته كثيراً. غير أن حاله الصحية بدأت تتراجع ابتداء من 27/10/2004، وعلى الفور استدعي طبيبه أشرف الكردي من عمان، وجاءت طواقم طبية من مصر وتونس والأردن للإشراف على وضعه الصحي.

لم تتمكن جميع هذه الطواقم من وقف التدهور، وراح قائد الثورة الفلسطينية المعاصرة يصاب بالإغماء والوهن المستمر. وفي 28/10/2004 اتخذت الفرق الطبية قراراً بنقله إلى فرنسا للعلاج. وفي 29/10/2004 نقلته مروحية أردنية إلى مطار "ماركا" العسكري القريب من عمان، وهناك كانت طائرة فرنسية مجهزة طبيا تجثم بانتظاره، فنقلته فوراً إلى مستشفى "بيرسي" العسكري. وتضاربت الأنباء عن صحته خلال الأيام الثلاثة اللاحقة بينما كان المئات من الفلسطينيين والفرنسيين يضيئون الشموع في كل ليلة في محيط المستشفى وهم ينتظرون أخباراً مطمئنة. لكن، في 3/11/2004 أصيب بانتكاسة خطيرة، ودخل في غيبوبة. وفشل الأطباء في وقف تكسر الصفائح الدموية في شرايينه. وقد أظهرت تقارير المستشفى أن قلب ياسر عرفات ودماغه وأعضاء جسمه كانت كلها سليمة، وبينت عدم وجود أي نوع من  السرطانات أو الإلتهابات الحادة أو الفيروسات في دمه.

إذاً، ما الذي أدى إلى رحيل القائد؟ هذا ما ظهر في سنة 2012، فأبو عمار اغتيل بمادة البولونيوم 210 المشعة بحسب ما أعلنه مدير معهد الفيزياء الإشعاعية في مدينة لوزان السويسرية. والبولونيوم 210 المشع لا يوجد في الطبيعة، بل لا بد من تصنيعه في مفاعل نووي أو في مختبر ذري، أي أن إسرائيل هي وحدها القادرة على امتلاك هذه المادة والتي لها مصلحة في تغييب ياسر عرفات.

 

الوداع الأليم

رحل أبو عمار فجر 11/11/2004، فشيعته فرنسا بمراسم رسمية كاملة شارك فيها الرئيس جاك شيراك، ثم نُقل إلى القاهرة حيث شيع مرة أخرى في 12/12/2004 بمراسم تكريمية شارك فيها عدد كبير من الزعماء العرب وقادة دول العالم، ولم تسمح السلطات المصرية بتنظيم جنازة شعبية في القاهرة، واكتفت بالجنازة الرسمية التي بدأت بالصلاة عليه في مسجد نادي الجلاء، وأمَّ المصلين شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي. ثم سار موكب الجنازة إلى مطار ألماظة العسكري بعدما وضع النعش فوق عربة مدفع تجرها الخيول. وفي مطار ألماظة أقلته طائرة مصرية إلى مطار العريش، ثم نقلته طوافة عسكرية إلى رام الله حيث كانت الجموع الحاشدة تسد الساحة الرئيسة. وقد غاصت الطائرة بين الجموع الباكية، وتخاطفت الجثمان الأيادي التي طالما منحها اسم ياسر عرفات عزة ومجداً وكرامة.

هكذا كان رحيل ياسر عرفات استثنائياً، مثلما كانت حياته استثنائية وفريدة أيضاً. فقد شيعته ثلاث قارات معاً: أوروبا وأفريقيا وآسيا. ففي باريس حمل نعشه جنود فرنسيون، وعزفت فرقة موسيقى الجيش الفرنسي نشيد المارسلياز ثم النشيد الوطني الفلسطيني الذي يقول مطلعه:

فدائي فدائي يا أرضي يا أرض الجدود       

فدائي فدائي يا شعبي يا شعب الخلود

فلسطين داري، فلسطين ناري

فلسطين ثاري وأرض الجدود

شيعت القارات الثلاث جنازة ياسر عرفات، لكن الجنائز الرمزية عمت قارات العالم كله، ولا سيما في مخيمات اللاجئين في لبنان وسوريا والأردن وغزة، وسارت مسيرات حزينة تكريماً لاسمه في باريس وروما وواشنطن.

 

ما عاد الصمت ممكناً

إسرائيل هي التي اغتالت ياسر عرفات. هذا ما كنا ندركه منذ البداية، وهذا ما أدركه العالم اليوم. وياسر عرفات كان من المحال أن يغادر أرض فلسطين إلى ثراها إلا شهيداً. غير أن إسرائيل التي عجزت عنه وجهاً إلى وجه بعدما وصلت إلى غرفة نومه في رام الله، نجحت أخيراً في اغتياله بخسة ونذالة، ولن تنفع جميع مباخر الحاخامات وصلواتهم في إخفاء الجريمة. أما الصمت فما عاد جائزاً على الإطلاق. فالصمت على هذه الجريمة لا يقل بشاعة عن جريمة الإغتيال نفسها، ولا بد من الإقتصاص ولو بعد حين. فهل يتحرك المجتمع الدولي لفضح جريمة إسرائيل العنصرية؟ وهل يتحرك القانون الدولي لإيقاع الحكم على المجرم؟ أما الشعب الفلسطيني فلا خيار له إلا مواصلة مسيرة عرفات وأبو جهاد وأبو إياد وجميع رفاقهم الشهداء. وهذا هو الرد التاريخي.