ما كتبه جدعون ليفي في عدد أمس من "هآرتس" الاسرائيلية، وتنشره العديد من الصحف العربية اليوم؛ يستحق تحية وسلاماً استثنائييْن، لرجل يصف نفسه بأنه "وطني إسرائيلي" مهمته منع الاسرائيليين "من الوصول الى يوم يقولون فيه: لم نكن نعرف"! وإن كان وصفه للموقف الإسرائيلي بالوقاحة، فإنني أعترف ككاتب، بمحاذير سحب فعل الوقاحة وصفتها الذميمة، على الموقف الأميركي، مثلما فعل جدعون نائب رئيس تحرير الصحيفة في مقالته أمس، المنشورة في جريدتنا اليوم، في صفحة الترجمات العبرية.

كنت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 قد رغبت في تغيير نمط الاحتفال السنوي الذي يقيمه المجلس الهندي للعلاقات الخارجية إحياءً ليوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، وأبلغت الخارجية الهندية بأن كلمتنا الرئيسة سيلقيها هذه السنة صحفي إسرائيلي يهودي بارز، من أصل ألماني اسمه جدعون ليفي وهو حائز على "جائزة لايبزغ" لوسائل الإعلام في إسرائيل، وعلى جائزة الصحفي اليورو متوسطي للحوار بين الثقافات، وسأقدم هذا الصديق الاسرائيلي بنفسي. تواصلنا مع جدعون من خلال زميل لنا من الأسرى المحررين، يجيد اللغة العبرية، وتحمس جدعون بطريقة احتفالية ورغب في اصطحاب زوجته وأبلغناه أنه وحرمه، سيكونان في ضيافة العائلات الفلسطينية في دلهي. وفي الحقيقة اصطدمنا بعقبة سببتها السفارة الإسرائيلية التي رأت في تقديم إسرائيلي يلقي كلمة الفلسطينيين تجاوزاً يسيء لعلاقة تنمو بين إسرائيل والهند. كانت حساسية الأمر غالبة عند الهنود، رغم محاولتنا إقناعهم أن القضية الفلسطينية، من خلال كلمة جدعون، يمكن أن ترمز الى بعدها الإنساني، باعتبارها قضية متخطية للأعراق وللجنسيات. وفي العام الذي تلاه، أي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 حاولنا استضافة د. أحمد الطيبي كعضو "كنيست" من العرب الفلسطينيين، يحمل الرواية الحقيقية من الواقع. في هذه المرة الأخيرة، جُن جنون بلطجي البار أفيغدور ليبرمان، فخاطب الهنود وصرح بأن إسرائيل لن تسمح بهذا. وهنا خففت الخارجية الهندية من حجم الضجيج، وطلبت منا أن تكون الدعوة عن طريق "الكنيست" مشفوعة بتوصية من السفارة الإسرائيلية، وقالت لنا إنكم لن تسمحوا لفلسطيني من الضفة وغزة، بأن يحضر مناسبة إسرائيلية في نيو دلهي، بدعوة من سفارة تل أبيب. قلنا لهم إن الرجل فلسطيني. قالوا لكنه عضو برلمان إسرائيل، ومثلما شطبتم أهمية العرق والدين في السنة الماضية، في مقدوركم أن تتغاضوا عن عرق د. أحمد الطيبي ودينه وان تركزوا على كونه عضو برلمان في إسرائيل. وامتد الحديث، وقلنا لهم ماذا نفعل إن لم يكن هناك فلسطينيون صحفيون ورسميون ومواطنون، في بلادنا، يؤيدون الاحتلال وما ذنبنا إن كان هناك في إسرائيل صحفيون وبرلمانيون وأكاديميون يعارضون هذا الاحتلال. إن هناك اختلافا بين قضيتنا واحتلالهم البغيض. لكن الرسميات غلبت للأسف، ولم يتسن لأخينا الطيبي أن يحضر، لا سيما بعد أن أصر على عدم التقدم بطلب لـ "وزارة ليبرمان" كما وصفها!

كنت أطمح الى استغلال زيارة جدعون، وزيارة الطيبي، وترتيب لقاءات لهم مع أوساط إعلامية وأكاديمية هندية، تمكنت سفارة إسرائيل من تضليلهم إن لم نقل من رشوتهم. وسبق أن كتبت عن تركيز إسرائيل على الهند واستعدادها للبذل المادي لكي تخلق مناخات مواتية للاستثمار والشراكة الاقتصادية مع الهند. فالعمل السياسي الاقتصادي لا ينفصل عن العمل الإعلامي والدعائي، وهذا ما لا يفعله العرب في أي مكان. ونحن لا نروج لقضية ضعيفة وفقيرة البراهين على عدالتها ووجاهتها. وجدعون ليفي ليس وطنياً فلسطينياً، وإنما هو وطني إسرائيلي، يرى عن حق أن الانسحاب أحادي الجانب، من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودون تنازلات فلسطينية هو عين الصواب وفي مصلحة الأجيال الإسرائيلية، لأن "على إسرائيل أن تُعيد للفلسطينيين أراضيهم المسروقة، وأن تعينهم على استعادة كرامتهم واحترامهم لذاتهم". وفي تعليقاته على العدوان على غزة قبل نحو خمس سنوات، قال إن الحملة فشلت ولم تحقق أهدافها، ونتيجتها الوحيدة أن إسرائيل دولة عنفية وخطرة ومتحللة من كل الضوابط وتتجاهل قرارات الشرعية الدولية.

كان جدعون واحداً من المضللين. خدم في الجيش كإعلامي شاب، يغطي عمل الجيش في الضفة. وعندما رأى بأم العين، ممارسات جنود الاحتلال، في التعدي على المواطنين نساء وأطفالاً عند الحواجز، ظن في البداية أن تلك تجاوزات فردية واستثناءات. قال "كنت صغيراً احمل أفكاراً مسبقة وجاهزة. ولما رأيت المستوطنين يقطعون أشجار الزيتون في حماية الجيش، ويعتدون على الناس في قراهم ومساكنهم، أدركت مع استمرار الممارسات، أن الأمر ليس استثناءات، وإنما هو جوهر سياسة الحكومة"!

لم اتطرق لشيء مما قاله جدعون في مقالته المريرة الساخرة، التي تفتح مسارب جديدة لرؤية وفهم ما يجري في هذه اللحظة السياسية. فالمقالة بين يدي القارئ في صفحة أخرى. كل التحية والسلام لجدعون ليفي!