رفعت شناعة

من الواضح أن المشروع الوطني الفلسطيني يعيش ظروفاً بالغة الخطورة، منها ما هي عوامل ذاتية داخلية، ومنها ما هي عوامل خارجية إقليمية ودولية، ومجمل هذه العوامل متداخلة بل ومتكاملة تهدف إلى تحقيق الهدف الأساسي وهو إجهاض المشروع الوطني الفلسطيني، وفتح الطريق أمام عملية تصفية القضية الفلسطينية بالشروط والأساليب الاسرائيلية تحت لافتة عريضة هي التفاوض من أجل عملية السلام.

المشروع الوطني تعرَّض سابقاً إلى ضربة قاسية عندما أجمعت قوى دولية وعربية ومحلية وعلى رأسهم القيادة الاسرائيلية العنصرية والاجلائية والاجرامية على اغتيال القائد الشهيد الرمز ياسر عرفات، وتغييبه عن المسرح السياسي، وقصم الظهر الفلسطيني، وادخال الوضع الداخلي الفلسطيني في أتون من الصراعات والنزاعات يقود إلى تآكل القضية الفلسطينية.

تم وضع السم لياسر عرفات فاخترق جسده الطاهر، وكان ذلك بقرار أميركي وتنفيذ إسرائيلي وبتواطؤ من جهاتٍ عديدة لها مصلحة في قتل ياسر عرفات لأنها ضاقت ذرعاً به وبمشروعه الوطني، وأصبح يشكل عقبة حقيقية بوجه التطبيع وإنهاء النزاع على حساب الشعب الفلسطيني.

من حسن حظ الشعب الفلسطيني، وحركة فتح تحديداً أن التقط المجذافَ أحدُ القيادات التاريخية المتبقية من حركة فتح الرائدة وهو الرئيس محمود عباس أبو مازن، وقاد مركبَ القضية الفلسطينية نحو شطِّ الأمان وسط المخاوف والتحديات، وحالات الحصار والمقاطعة، والتصعيد الاستيطاني، وتهويد الاراضي والمقدسات، والجرائم والقتل والتدمير.

كانت الولايات المتحدة تعتقد بأن الرئيس أبو مازن سيتعلَّم مما حصل لياسر عرفات فلا يجرؤ على الاقدام للوقوف بوجه السياسات والترتيبات الاميركية والاسرائيلية، لكنها فوجئت بصلابة هذا الرجل، وبمصداقيته مع شعبه ومع قضيته، وبصراحته المتناهية مع الجميع، ورغم كلِّ محاولات التضييق، والانهاك، والتجويع، والتأزيم الأمني، والعبث في الأمن الفلسطيني الداخلي، ورغم كل أصناف التشهير والتحريض، وتحريك نار الفتن إلاّ أنّ ذلك كله لم يؤثِّر على تماسك شخصية الرئيس الوطنية والسياسية والدبلوماسية.

تراكمت الأزمات، وتعدَّدت، وتنوعت أشكالها ومصادرها، وازدادت العراقيل وكان المطلوب دائماً وما يزال من هذه الحركة الرائدة أن تواجه التحديات رغم الواقع الأليم:

أولاً: الانقسام المدمِّر الذي بدأ في 14/6/2007 ولم ينتهِ بعد، الكيانُ الاسرائيلي يعتبر الانقسام إنجازاً مهماً لأنه يعطِّل الوحدة الوطنية، ويعيق الحراك السياسي الفلسطيني، ويعيق تحقيق الأهداف الوطنية، ويعطي الفرصة للكيان الاسرائيلي كي يتلاعب ويعبث بالأوضاع الداخلية الفلسطينية، ويدمِّر الانجازات الوطنية. الرئيس أبو مازن لم يتعامل بردة فعل على موضوع الانقلاب والانقسام، وانما تعاطى بإيجابية مطلقة، ومن منطلق وطني فلسطيني، وبعيداً عن المكاسب التنظيمية. لقد كان المبادرَ دائماً إلى الحضور، والمشاركة، والاتفاق، والتوقيع على كافة المبادرات التي تم التوصل إليها سواء في مصر أو في قطر، ولم يسجِّل على نفسه أيّ تقصير في هذا المجال. وهو دائماً يلبي ما تطلبه قيادة حركة حماس رغبة منه في الوصول إلى إنهاء الانقسام، وتعزيز الوحدة الوطنية، وحماية القرار الفلسطيني، ودائماً يصرُّ على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني لتجديد الشرعيات الفلسطينية، ويؤكد أنه لن يرشِّح نفسه مجدداً فطموحاته ليست شخصية وانما وطنية، وأثبت للقاصي والداني أنه عدوُّ الانقسام، وأنه الأحرصُ على توحيد الارض، والشعب، والقضية، ومقاومة الاحتلال.

ثانياً: رغم الهجمة الشرسة والموجّهة ضد الرئيس، وبالتالي استهداف وحدة حركة فتح من قبل العديد من الأطراف التي لها مصلحة في تمزيق الساحة الفلسطينية، وإضعاف قيادة حركة فتح، واستخدام أقذر الوسائل من تحريض وتشويه، وتشكيك، واساءة وطنية وشخصية، رغم ذلك كله تمكّن الرئيس أبو مازن من حماية القرار الفلسطيني المستقل، واستطاع أن يواجه المخططات الاسرائيلية والضغوطات الاميركية، وفي أحلك الظروف العربية المحيطة بنا. وقف الرئيس مستنداً إلى إرادة الاوفياء والمخلصين من أبناء الشعب الفلسطيني ومن أبناء حركة فتح الذين خرجوا في كل الأماكن في مسيرات شعبية مؤيدة لقيادته الحكيمة. تمكّن الرئيس أبو مازن من الصمود أمام ضغوطات أوباما، وأكّد تمسكه بالثوابت الوطنية للشعب الفلسطيني، ورافضاً التنازل عن الحقوق المشروعة. وعاد الرئيس الفلسطيني مرفوع الرأس مُطْمئناً لأنه بمواقفه كان بمستوى طموحات وآمال شعبه العظيم، والذين أساؤوا له قبل سفره فوجئوا بصلابته، ولم يجرؤوا على قول شيء بعد عودته وهو أكثر إصراراً على المواجهة.

ثالثاً: لقد حاولت الولايات المتحدة أن تفرض مرجعية جديدة على الشعب الفلسطيني تخدم مصالحها سواء كان إطار الاتفاق، أو اتفاق الاطار، أو إطار المبادئ، إلاّ أن المواقف الثابتة للرئيس أبو مازن، ولطاقم المفاوضات كانت دائماً هي الالتزام بإطار وبقرارات "م.ت.ف"، وخاصة قرارات الشرعية الدولية المُلزمة للجميع، ولكن الكيان الاسرائيلي الذي أخذ شهادةَ ميلاد بوجوده من الامم المتحدة، فإنه لا يعترف بها ولا بقراراتها سوى بقرار الاعتراف بالكيان الاسرائيلي كدولة. وهذه كانت معركة قاسية نجح فيها الرئيس رغم تهديدات أوباما وكيري بالمقاطعة، وتشديد الحصار، والانسحاب الاسرائيلي الاُحادي الجانب.

رابعاً: تهيَّأ للبعض وبسبب الحملة السياسية والاعلامية المغرضة التي استهدفت حركة فتح وقيادتها بأن فتح أصبحت لقمةً سائغة، ويمكن ابتلاعها وتصفية وجودها السياسي عبر حالات التمرد والانشقاق، والعبث الداخلي، إلاّ أنّ هذا الفريق بكل تفرعاته، ومستوياته، وارتباطاته وجد نفسه محبطاً لأنّه غاب عن ذهنه صمود وصلابة حركة فتح في مثل هذه الأوضاع، خاصة عندما يحاول البعض التطاول عليها، أو إنهاء وجودها، ودائماً يجد نفسه أمام حركة تتجدد، وتزداد أصالةً وتألقاً، وتزداد عزيمة أبنائها مع كل امتحان

خامساً: لقد كان الموقف الفلسطيني في ظل المفاوضات الحالية متماسكاً ويعرف ما يريد، فالمفاوضات تنتهي في 29/4/2014، وليس هناك أي شرط يلزم المفاوض الفلسطيني على تمديد المفاوضات، فالمفاوض الفلسطيني هو صاحب القرار، واستمرار المفاوضات مع استمرار الاستيطان مرفوض. الدفعة الرابعة من مجموع الأسرى يجب الافراج عنها في 29/3/2014، واذا لم يحصل ذلك فسيكون من حق الجانب الفلسطيني الذهاب مباشرة إلى مؤسسات وهيئات الامم المتحدة للبدء بمحاسبة هذا الكيان الصهيوني المغتصب.

الرئيس أبو مازن لم يحدد ماذا يريد بعد 29/4/2014 لأنَّ الطرف الاميركي لم يقدم الوثيقة التي وعد بتقديمها إلى الطرفين خوفاً من الفضيحة السياسية الكاملة لأن كلا الطرفين سيرفضان هذه الوثيقة استناداً إلى ما تم مناقشته في الشهور الثمانية السابقة. والمشكلة الأساسية هي أنَّ الولايات المتحدة الأميركية وقفت عاجزة أمام سطوة وأطماع الكيان الاسرائيلي، ولم تستطع ممارسة أية ضغوطات عليه، وانما صبَّت ضغوطاتها وتهديداتها على الجانب الفلسطيني.

ولذلك كان الرئيس أبو مازن واضحاً وجريئاً مع أوباما عندما أكّد بأنَّنا لا يمكن أن نفكر بالتفاوض والاستيطان يبتلعُ أرضنا، والمستوطنون يدمرون بيوتنا ويقتلعون الأشجار، ويسيئون التصرف مع أهالي البلد.

سادساً: إنّ قيادة حركة فتح تدرك مخاطرَ التهديدات والضغوطات الراهنة والمتزايدة، وتعرف جيداً أنها تترافق مع مخططات ومشاريع تهدف إلى تقويض السلطة، وتصفية القضية الفلسطينية، وهي تتصرف على أساس هذا الفهم، وتضع أمامها خياراتٍ متعددةً حتى لا تفقد زمام المبادرة أمام عالمٍ لا يرى تجاهلَ الكيان الاسرائيلي للشرعية الدولية وقراراتها، وانما يتعمّدُ دائماً الضغط على الطرف الفلسطيني من أجل أن يستمر بالمفاوضات مع استمرار الاستيطان. فالذهاب إلى المؤسسات الدولية وخاصة محكمة الجنايات الدولية هو خيار قائم وقانوني، ويشكل خياراً ضاغطاً على الاحتلال العنصري والاستيطاني. وأما الخيار الثاني الذي بدأ يتأسس ميدانياً وهو المقاومةُ الشعبية التي تعتمد على القدرات والطاقات والابداعات الجماهيرية، والتي تحمل في جوفها مفاعيلَ استمرارها وتناميها، وتمتد جذورُ هذا الخيار إلى ثورة العام 1936، وانتفاضة يوم الارض، وانتفاضة الحجارة وهي مقاومةٌ تتغذى من المخزون الشعبي، والارادة الوطنية، وهي عصيَّة على الاحتلال، تبدأ صغيرة ثم تكبر، تكون متناثرة ثم تتوحَّد، وتذهب باتجاه السياق الاجتماعي والتاريخي والسياسي الذي ترسمه تحوُّلات المجتمع الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. هذا النمط من المقاومة لا يلغي الكفاح المسلّح، ولا يكون على حسابه، ولكن اختيار النمط المطلوب من المقاومة يكون استناداً إلى الواقع ومعطياته، واينما تكمن مصلحة القضية الفلسطينية، واذا كان العدو الاسرائيلي يتمنى أن يجدنا في المربع العسكري الذي يرسمه هو، فليس بالضرورة أن نذهب إلى حيث يشاء العدو في الوقت الذي يشاء، وانما نعمل نحن على جَرِّهِ إلى المربع الذي نريد في الوقت الذي نريد، ونحن نسعى إلى حيث تكمن مصلحتنا ومصلحة شعبنا.

وفي كل المراحل إذا كنا لا نستطيع أن نفرض على الاحتلال الإسرائيلي ما نريد من حقوقنا في هذه المرحلة، لكننا لن نسمح له أن يفرض علينا ما يريد من حلول مهما كلف الأمر، والمشوار طويل، وحركة فتح ثورة حتى النصر.