صقر أبو فخر

في 9 نيسان 1948 ارتكبت إحدى المجموعات الصهيونية التابعة لمناحيم بيغن مذبحة دير ياسين المعروفة. وخُيِّل لكثيرين من الصهيونيين أن الفلسطينيين سينسون؛ فكبيرهم سيموت وصغيرهم سينسى. لكن، بعد ثلاثين سنة بالتمام، وبالتحديد في 11/3/1978، قامت "مجموعة دير ياسين" التابعة لقوات العاصفة بالانتقام لدير ياسين باسم كمال عدوان. أما مناحيم بيغن فأنهى حياته في مصح عقلي في دير ياسين نفسها التي أسماها الاسرائيليون "كريات شاؤول" بعد أن أطارت المقاومة الفلسطينية عقله، وأذاقته دلال المغربي في "عملية كمال عدوان" طعم الحنظل.

إن عملية كمال عدوان التي جرت وقائعها على أرض فلسطين في 11 آذار 1978 هي من أكبر عمليات الثورة الفلسطينية المعاصرة وأهمها، قياساً على نتائجها وتداعياتها، وتكاد لا توازيها أي عملية عسكرية أخرى إلا "عملية فندق سافوي" في قلب تل أبيب التي جرت في 6/3/1975. ففي عملية فندق سافوي قُتل العقيد عوزي يائيري الذي قاد عملية اغتيال كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف النجار في بيروت في 10/4/1973، فكان القصاص جلياً بالكامل. وعملية كمال عدوان خطط تفصيلاتها كلها الشهيد خليل الوزير ( أبو جهاد)، وحدد موعدها في 11/3/1978، أي في الذكرى الخامسة لاغتيال القادة الثلاثة، في إشارة رمزية إلى أن الذاكرة الثورية ما برحت متوهجة، ولن يطويها النسيان، وأن القصاص الثوري حق للمقاتلين في سبيل حرية وطنهم.

ليس الكلام على عملية كمال عدوان اليوم مجرد استعادة لحدث وقع في الماضي، إنما هو إستعادة لحدث مازال حياً في الذاكرة الجمعية للفلسطينيين، ولتاريخ من التضحية والفداء، ولطراز مهيب من الفدائيين. كانت دلال المغربي تقود "وحدة الإسناد" أو "مجموعة التعزيز" في عملية كمال عدوان التي شارك فيها أحد عشر فدائياً هبطوا فلسطين بالزوارق بعدما فُقد اثنان في لجج البحر المتوسط. ومن بين هؤلاء الفدائيين يحيى محمد سكاف وعامر أحمد عامرية وعلي حسين مراد (من لبنان) ومحمد حسين الشمري وعبد الرؤوف عبد السلام علي (من اليمن) وثمانية من فلسطين.

ولدت دلال المغربي في بيروت في 29/12/1959، أي في السنة التي استكملت فيها حركة فتح بناءها التأسيسي، وأعلنت عن نفسها في أوساط اللاجئين، وأصدرت مجلة "فلسطيننا – نداء الحياة" بإشراف الحاج توفيق حوري والأخ هاني فاخوري (أبو ياسر). والمعروف أن، شقيقة دلال الكبرى، رشيدة، كانت مقاتلة في صفوف فتح، وهي التي ألقت قنبلة على السفير العراقي في لندن رداً على حماية النظام العراقي آنذاك لمجموعة صبري البنا ( أبو نضال) التي اغتالت عزالدين القلق في باريس، وسجنت تسعة أشهر في انكلترا.

انضمت الى كتيبة أبو يوسف النجار في صور سنة 1976، وفيها تلقت تدريباتها العسكرية على أيدي الشهيد عزمي الزغير وكايد يوسف (اللواء يوسف عبد العزيز حسين)، ثم عاشت ردحاً من حياتها في أجواء الكتيبة الطلابية مع سعد جرادات الذي استشهد في محلة الناصرة في بيروت وسحله عنصريو "القوات اللبنانية" في شوارع الأشرفية، وكذلك مع علي أبو طوق الذي اغتاله الغادرون في مخيم شاتيلا سنة 1987.

اختار لها أبو جهاد، لفرط أبوته لها، اسم "جهاد"، ولعلها هي التي اختارت هذا الاسم لتعلقها اسم الشهيد الكبير خليل الوزير. وبناء على رغبتها التحقت بالمجموعات الخاصة للعمل في الأراضي المحتلة، ورشحها الى هذه المهمة كل من الأخ مجيد الآغا والشهيد مأمون مريش الذي اغتيل في اليونان في 20/8/1983. وفي إطار "الغربي" خضعت مجدداً لدورة خاصة في أحد معسكرات منطقة صور. وحين حدد أبو جهاد موعد العملية التي ستهز اسرائيل والعالم هزاً قوياً، أبحر الفدائيون من ساحل صور في 9/3/1978. وبعد مناورات بحرية وصلوا الى شاطئ فلسطين في 11/3/1978، ونزلوا بالقرب من مستعمرة "معيان ميخائيل" الواقعة على بعد 25 كلم الى الجنوب من حيفا. وهناك، على طول الطريق الواصل الى تل أبيب، جرت معركة باهرة بجميع المقاييس، وأقام الفدائيون "الجمهورية الفلسطينية الأولى" بحسب الشاعر السوري الكبير نزار قباني، وخاضوا القتال الأخير عند "كاونتري كلوب" في منطقة هيرتسليا حيث استشهدت دلال المغربي، وشوهد إيهود باراك وهو يُقلِّب جثمانها بعد المعركة.

في تاريخ فلسطين البهي حدثٌ غيَّر العالم كله هو ولادة يسوع المسيح في بيت لحم. ثم قدمت مريم ابنها الوحيد يسوع فداء للبشرية والعدل ولرسالته المتجددة. وعلى أرض فلسطين نشأت، حتى قبل المسيحية، عقائد الموت والقيامة، الغياب والعودة، الاضمحلال والانبعاث. أما مريم الفلسطينية التي صار اسمها "دلال"، فقد قدمت نفسها فداء للأرض، وها هي، بعد ست وثلاثين سنة، ما برحت تتجدد في ذاكرة الأرض، وتُبعث في كل أوان لتقول إنها استشهدت كي تذهب الى مكان قصي في فلسطين، وتنام تحت نخلة، أو ربما تحت شجرة برتقال، وتهزالتاريخ بقوة.

عادت سوسنة المراعي في 11/3/1978 الى الأرض الأولى وهي مضمخة بالأقحوان الذي يفور من الارض في كل ربيع. وكانت دلال زهرة من أزاهير الساحل الفلسطيني تفتحت في العام العاشر للنكبة وفي السنة التي شهدت تأسيس حركة فتح، ثم لم تلبث، وهي في عامها الثلاثين، أن ذهبت الى حلمها... وعادت إلى الأرض التي لم ترها منذ ولادتها قبل خمس وخمسين سنة، واكتفت بأن عانقتها لساعات وانغمرت في ترابها.