بقلم/ صقر ابو فخر

خاص/مجلة القدس، في العاشرمن نيسان 1973 استفاقت بيروت على خبر مروِّع كان له الأثر الكبير في الأحوال السياسيةالتي عصفت بلبنان وبالقضية الفلسطينية معاً. فقد تمكنت القوة الضاربة الإسرائيلية Hit team  من التسلل إلى شاطئ بيروت (منطقة الرملة البيضاء)حيث كانت عدة سيارات في انتظارها، فركبتها بعد أن توزعت على أربع فرق: الأولى اتجهتإلى مقر ياسر عرفات في الفاكهاني، فاصطدمت بحراسات ليلية للجبهة الديمقراطية ودار حينذاكاشتباك عنيف أدى إلى فشل مهمة هذا الفريق في اغتيال الأخ أبو عمار. والثانية اتجهتإلى الأوزاعي حيث نسفت مقراً للبحرية الفلسطينية فاستشهد الأخوان ناصر ودفنا في ماسمي لاحقاً "روضة الشهيدين" عند مستديرة شاتيلا والثالثة اتجهت إلى منطقةالمسلخ – الكرنتينا، وتمكنت من تفجير قاعدة عسكرية لحركة فتح. أما الرابعة فقد سارتباتجاه شارع فردان في قلب العاصمة بيروت، واقتحم عناصرها منازل الشهداء الثلاثة (كمالعدوان ومحمد يوسف النجار وكمال ناصر) وتمكنت من اغتيالهم جميعاً.

قاد هذه العمليةأمنون شاحاك من غرفة العمليات في اسرائيل. وشاحاك هذا صار رئيساً للأركان في ما بعدوشارك فيها إيهود باراك الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء. أما قائدها الميداني فكانالعقيد عوزي يئيري الذي أعدمه فدائيو "فتح" في عملية فندق "سافوي"التي وقعت في قلب تل أبيب في 6/3/1975، والتي خططها وأشرف على تنفيذها الشهيد خليلالوزير (أبو جهاد). وتبين لاحقاً أن جوناثان نتنياهو (يونا)، وهو شقيق بنيامين نتنياهو،هو الذي أطلق النار على محمد يوسف النجار (أبو يوسف). وقد قُتل يونا في عملية عنتيبيفي أوغنذا في 4/7/1976، وهي العملية التي خططها الشهيد وديع حداد واستشهد فيها فايزجابر وجايل العرجا وآخرون. وتبين أيضاً أن إيهود باراك هو الذي قتل كمال عدوان مثلماقتل دلال المغربي في عملية كمال عدوان سنة 1978، وقتل ابو جهاد في سنة 1988.

السياق التاريخي

وقعت عملية استشهادالقادة الثلاثة في سياق الإرهاب الصهيوني الذي تصاعد، بقوة، بعد عملية ميونيخ في5/9/1972، وبعد القرار الذي اتخذته حكومة غولدا مئير بالانتقام من حركة "فتح"وقادتها، ومن الفصائل الفلسطينية المقاتلة الأخرى وفي هذا الميدان اغتالت اسرائيل وائلزعيتر في روما في 16/10/1972، ومحمود الهمشري في باريس في 8/12/1972، وباسل الكبيسيفي باريس أيضاً في 6/4/1973، واغتالت قبل ذلك غسان كنفاني في بيروت في 8/7/1972، وأرسلتطروداً مفخخة لتنفجر بين أيدي أنيس صايغ في 19/7/1972، وبسام أبو شريف في25/7/1972 وغيرهما. وكان ان ردت حركة "فتح" على موجة الارهاب الصهيوني هذهباللجوء إلى الحرب الوقائية السرية، فتمكنت من قتل تسادوك عوفير في بلجيكا في10/9/1972(وهو أحد مسؤولي محطة الموساد في بروكسيل)، وعامي تساحوري في امستردام في10/9/1973، وموشيه حنان يشاي (اسمه الحقيقي باروخ كوهين) في مدريد في 26/1/1973 (اغتالهالشهيد محمد بودية بنفسه)، ويوسف ألون في واشنطن في 1/7/1973.

أرادت اسرائيلمن اغتيال القادة الثلاثة تحقيق غاية رئيسية ذات ثلاثة أبعاد. البعد الأول هو الانتقاممن العقول التخطيطية في الثورة الفلسطينية، فقد كان كمال عدوان مديراً لمركز التخطيطومسؤولاً عن العمليات في فلسطين المحتلة (القطاع الغربي)، وكان محمد يوسف النجار أحدالقادة الكبار والمؤسسين لقوات العاصفة، وكان كمال ناصر واحداً من الذين منحوا الثورةالفلسطينية حضوراً لائقاً في الإعلام العربي والدولي، وكان قد أصدر في 28/6/1972 العددالأول من مجلة "فلسطين الثورة". والبعد الثاني هو تحطيم سوار الأمان للمؤسساتالفلسطينية وللقادة الفلسطينيين، وإشغال منظمة التحرير الفلسطينية في التفتيش الدائمعن وسائل للحماية. والبعد الثالث هو إحداث أزمة بين الثورة الفلسطينية والحكومة اللبنانية.

وبالفعل، فقد شرّعتهذه العملية الأبواب لرياح الانقسام السياسي في لبنان، ولا سيما حين تبين أن المجموعاتالضاربة الإسرائيلية تمكنت من النزول على شاطي بيروت، وتحركت في شوارع المدينة بحريةتامة، ونفذت مهماتها القذرة، ثم غادرت لبنان من منافذ مختلفة، ولم تتحرك الجهات الأمنيةاللبنانية المختصة. وكان من الواضح تماماً أن هناك متواطئين مع إسرائيل في الداخل اللبنانيممن سهلوا استئجار السيارات لها، وممن قادوا الكوماندوس الإسرائيلي كأدلاء إلى المواقعالفلسطينية المقصودة. ومع ذلك لم تفلح السلطات اللبنانية، آنذاك، في كشف أسرار هذهالعملية. وقد استقال رئيس الحكومة صائب سلام عندما عجز عن إقالة قائد الجيش المسؤولعن الأمن.

مقدمة للحرب الأهلية

سار في جنازة الشهداءالثلاثة نحو 250 ألف شخص بحسب تقديرات الصحافة اللبنانية. وحتى لو طرحنا عامل المبالغةفي هذا الرقم (مئة ألف مثلاً) فإن الرقم الباقي، أي مئة وخمسون ألفاً، يُعد كبيراًجداً بالمقاييس اللبنانية. وكان الفلسطينيون لا يستطيعون حشد أكثر من خمسين ألف مشاركفي الجنازة في تلك الأيام، وهذا يعني ان الأغلبية الساحقة من المشاركين كانت من اللبنانيين،الأمر الذي يعني أن المقاومة الفلسطينية تحولت الى قوة سياسية لبنانية.

أرعب هذا المشهدالقوى اليمينية الحاكمة في لبنان، تماماً مثلما ارتعب النظام الأردني، بعد معركة الكرامةفي 21/3/1968، من مشهد المقاومة الفلسطينية وقد تحولت إلى حركة تحرر وطني، خصوصاً أنهرأى، بأم العين، كيف سار آلاف الأردنيين والفلسطينيين في جنازة الشهيد عبد الفتاح حمود(ابو صلاح) في 29/2/1968، فراح يُعد العدة لضرب حركة المقاومة، ونفذ خطته في 17 أيلول1970.

هذا ما حصل تماماًفي لبنان. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاستعداد لضرب المقاومة الفلسطينية على الطريقة الأردنية،أي بالجيش. وبالفعل انفجر القتال في 2 أيار 1973، وحاولت وحدات من الجيش مدعومة بالطيرانتحطيم قدرات المقاومة، والسيطرة على مخيمات بيروت، فاصطدمت بمقاومة شرسة، ولاسيما عنددوار الكولا والمدينة الرياضية وغيرها. غير أن حسابات حقل النظام اللبناني في ذلك الوقتلم تطابق بيدره، إذ كانت مصر وسورية قد بدأتا العد العكسي لحرب تشرين الأول 1973، وكانفتح أي مشكلة جانبية يعيق خطتهما لهذه الحرب، فتلقى الرئيس اللبناني سليمان فرنجيةإنذاراً شديد اللهجة من الرئيس أنور السادات، وإنذاراً آخر من الرئيس حافظ الأسد أتبعهبغلق الحدود بين لبنان وسورية، فتوقفت المعارك على الفور.

كان فشل خطة القضاءعلى المقاومة الفلسطينية في أيار 1973 مدعاة للتفكير بطريقة أخرى، فظهرت في تلك الفترةما سُمي "خطة كيسنجر" التي  تتضمنإغراق المقاومة في الوحول اللبنانية، وافتعال حرب بين الميليشيات اليمينية (الكتائبوحزب الوطنيين الأحرار) وفصائل المقاومة الفلسطينية. أما الغاية فهي التغطية على الانسحابالأميركي المخزي من فيتنام، وإشغال المقاومة عن إسرائيل، والسعي إلى تحطيم منظمة التحريرالفلسطينية في معمعان الحرب الأهلية بعد فشل الجيش في هذه المهمة.

كانت اشتباكاتأيار 1973 التي أعقبت اغتيال كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف النجار والأخوين ناصرفي الأوزاعي "البروفة" الأولى، أو التمرين الأولي للحرب التي انفجرت في13 نيسان 1975، وكان ضحاياها الأوائل فلسطينيون مدنيون عائدون من بيروت إلى تل الزعتربعدما شاركوا في الذكرى الثانية لاستشهاد القادة الثلاثة، والذكرى الأولى لعملية الخالصة(كريات شمونة) التي وقعت في الذكرى الأولى لاستشهاد الكمالين وأبو يوسف النجار، أيفي 11/4/1974. وهكذا صار ما قبل اغتيال القادة الثلاثة تاريخاً، وما بعده تاريخاً آخر.