كان إعلان وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في أواسط كانون الأول 2010 عن أن الولايات المتحدة الأميركية لم تنجح في إقناع اسرائيل بوقف الاستيطان، ولو إلى فترة مؤقتة، خاتمة المطاف لجولة امتدت تسعة أشهر تقريباً، ولم تتمخض عن أي نتيجة عملية. هذا يعني، في السياق السياسي، انفتاح الشهية الاسرائيلية على الاستيطان بطريقة شرسة في القدس ومحيطها بالدرجة الأولى.
إن صورة الوضع في المنطقة باتت الآن على النحو التالي:
الولايات المتحدة الاميركية لا تمنح الصراع الفلسطيني-الاسرئيلي الأولوية، بل هي منهمكة بترتيب الأوضاع في العراق بالتفاهم الخفي مع ايران، وبترتيب شؤونها في أفغانستان وباكستان كي لا تفرط سبحة العقدة الآسيوية. أما أوروبا فهي غير قادرة على كبح جماح اسرائيل، مع أن لها مصلحة أساسية في وضع حد لتمادي اسرائيل في الاستيطان وتخريب عملية السلام. وهي تحاول، بقدر الإمكان، أن تدفع الأمور نحو التوصل الى حل ما على أساس فكرة الدولتين، لأن لأوروبا مصلحة جوهرية في سلام الشرق الأوسط، خصوصاً أن نحو 30 مليون مسلم يعيشون على أراضيها، ويتأثرون، بمقادير متفاوتة، بما يجري في فلسطين؛ فالسلام في المنطقة يقي أوروبا الكثير من العمليات "الارهابية" التي تتخذ من دول هذه القارة ميداناً لها. بينما الدول العربية، في معظمها، صارت لا ترى، مع الأسف، أن من أولوياتها التصدي لاسرائيل ولخططها الاستيطانية، فالأولويات لدى بعض هذه الدول ما عادت فلسطين، بل باتت لديها مخاطر أخرى ومشكلات مستجدة جعلتها، ويا للغرابة، تتذرع بها وتحوِّل مصالحها نحو اتجاه آخر، وتدير ظهرها لفلسطين إلا في الميدان الاعلامي وحده. وتبدو أحوال اسرائيل، في خضم هذه المتغيرات، متينة وراسخة؛ فلا توجد قوة ضغط عليها من الداخل مثلما كانت الحال في سنة 1982 مع ظهور " حركة السلام الآن"، أو عشية اتفاق اسلو. ولا توجد أيضاً قوة ضغط عليها من الخارج تجعلها تحسب حساباً لها؛ ولا اللوبي اليهودي الأميركي(AIPAC) ينتهج سياسة مناوئة لسياسية الحكومة الاسرائيلية. وكذلك لا يوجد تهديد أمني جدي من الجوار العربي؛ فحتى الجبهات التقليدية في غزة وجنوب لبنان صارت هادئة تماماً مثل بقية الجبهات العربية، حيث يسود مبدأ " لا حرب ولا سلم ولا مقاومة". ثم ان الوضع الاقتصادي والمالي لاسرائيل مستقر تماماً.
إذا كانت هذه الصورة صحيحة، وهي صحيحة، فلماذا ستنخرط اسرائيل في أي مسار جدي لتسوية ما، ما دام أن أي تسوية سترغمها في نهاية المطاف على التخلي عن بعض المكاسب التي هي، في الأساس، حق من حقوق الفلسطينيين؟ وهنا، في هذا الميدان، شرعت اسرائيل، منذ فترة في سياسة خبيثة تهدف الى نزع الشرعية عن منظمة التحرير الفلسطينية، وإضفاء الشرعية على خططها الاستيطانية وعلى احتلالها القدس، وعلى اجراءاتها اليومية التي تهدف الى التغلغل التدريجي في النسيج العمراني والبشري للمدينة ولأحيائها المجاورة.
إن نزع الشرعية عن منظمة التحرير بذريعة أن هذه المنظمة ما عادت تمثل الفلسطينيين كلهم، ولا سيما في غزة وفي بعض بلدان اللجوء، يغذيه في كل يوم الانقسام الجغرافي والسياسي الذي وقع في سنة 2007، والذي قدم للاحتلال أفضل الهدايا وأفخرها. وهذه الخطة التي تحاول اسرائيل تسويقها لدى الادارة الاميركية بالدرجة الأولى، تهدف إلى إلغاء الالتزامات الاسرائيلية تجاه منظمة التحرير الفلسطينية التي جرى التوصل إليها منذ توقيع اتفاق اوسلو في سنة 1993 فصاعداً. وهذا يعني بصريح العبارة ان حل الدولتين يتهاوى الآن جدياً.
ما هي الخيارات البديلة إذاً؟
إنها معضلة حقيقية، لأن الخيارات المتاحة محدودة التأثر. فالذهاب الى مجلس الأمن غير مجدٍ لأن "الفيتو" الأميركي في الانتظار. والعودة الى التفاوض مضيعة للوقت وعبث لا طائل منه. أما الدعوة الى حل السلطة الوطنية فهي مجرد كلام احراجي لا يقدم للشعب الفلسطيني أي مكسب سياسي راهن، ولا يؤسس لانتزاع أي مكسب في المستقبل القريب.
ما العمل في هذه الحال؟
من الصعب توجيه إبرة البوصلة تماماً اليوم، وخصوصاً أن العالم العربي بأكمله صار سديمياً بلا ملامح. فقد تغيرت الأمور جذرياً خلال السبع سنوات الماضية، أي منذ احتلال العراق في سنة 2003 وتهتكت بقايا النظام الرسمي العربي أو ما كان يسمي "التضامن العربي" جراء حروب الخليج الثلاثة (1980،1991،2003)، وصعد الدور الايراني بقوة في سماء المنطقة العربية، وازدادت تبعية دول الخليج العربي للولايات المتحدة خوفاً من ايران وخطرها الداهم (وربما الواهم)، وباتت أمعاء الدول الرئيسية (مصر وسوريةو العراق) خارج أجسادها، أي أن مصادر مياهها صارت تحت سطوة الآخرين (النيل ودجلة والفرات)، وأصبحت نقود الدول الريعية النفطية خارج خزائنها بعدما امتصت الأزمة المالية العالمية أرصدتها الباقية (2تريليون دولار تبخرت خلال السنوات الثلاث الماضية)... وهكذا.
في معمعان هذه العواصف المتلاطمة يصبح من المحال اتخاذ قرارات حاسمة وجذرية فالمرونة ضرورية في هذا المناخ، وغير ذلك مغامرة غير محسوبة النتائج وربما تؤدي الى التهلكة. ولكن المراوحة من دون قرارات واضحة فيها مخاطر جمة على القضية الفلسطينية. وقد بات من البدهي تماماً ان السلطة الوطنية وحدها لن تحصل بالتفاوض على أي إنجاز سياسي. وحركة حماس لن تحصل في قوقعتها وفي "الفيتو" الذي صنعته بأيديها على أي شيء على الاطلاق. وحتى لو توحد الفلسطينيون مجدداً، وهذا أمر جيد ولا بديل منه البتة، فليس من المؤكد أنهم سيستطيعون انتزاع الأهداف الوطنية من اسرائيل في أمد قريب. فهل يتصور أحد أن في الامكان إرغام اسرائيل على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما في ذلك القدس، والقبول بحل عادل للاجئين على اساس القرار 194، ما دام الوضع العربي على هذا النحو من التهتك والهوان والتنافر؟ وهل يُطلب من الفلسطينيين وحدهم أن يقوِّموا اعوجاج العرب بينما العرب لاهون بحروبهم المستجدة في السودان والصومال واليمن والعراق وربما في لبنان؟ وهل يمكن أن تنتصر حركة التحرر الوطني الفلسطينية من دون أن يكون لها عمق يحميها ويغذيها ويمدها بعناصر الصمود؟
من دون الصين والاتحاد السوفياتي هل كانت فيتنام ستنتصر؟ ومن دون مصر والمغرب هل كانت ستنتصر الجزائر؟ ومن دون دول المواجهة الافريقية هل كانت ستنتصر الثورة السوداء في جنوب افريقيا؟ ومن دون العمق العربي المؤازر يصبح الفلسطينيون طرائد أجهزة الأمن في النظم السياسية العربية، وهذا ما وقع فعلاً في فترات زمنية كثيرة.
قصارى القول إن هذه الأحوال لن تتغير نحو الافضل إذا لم يصبح تحرير فلسطين مصلحة عربية أولاً وأخيراً، وإذا لم يكتشف العرب، الخائفون الآن والقلقون، أن في فلسطين، وليس في غيرها، يحافظون على هويتهم القومية، ويمكنهم أن يتطلعوا معها نحو النهوض والتقدم والاستقرار. ومن دون فلسطين لن يبقى للعرب أي هوية قومية بل يصبحون سنة وشيعة وأكراداً وأقباطاً وغير ذلك.
إن انفصال الجنوب السوداني، وعلى كثرة آلام هذا الحدث، لن يُفقد العرب هويتهم، ولن يُفقد السودان هويته، تماماً مثلما لم يُفقد سلخ لواء الاسكندرون وكيليكيا وضمهما معاً الى تركيا السوريين هويتهم العربية، وكذلك لم يفقد استيلاء ايران على الأحواز هوية العراق القومية. أما الخضوع العربي لاسرائيل فهو النقطة القاتلة التي تُفقد العرب بالفعل هويتهم الجامعة، وتحوِّلهم إلى "أوطان" متنافرة ومتصارعة ومتنافسة. وسيستند كل " وطن" إلى طائفته الغالبة ليستنفر بها العصبية المحلية في مواجهة "الأوطان" المجاورة وعصبياتها الطائفية... وهنا الكارثة الحقيقية التي أطلت برأسها في سنة 2003 ودهمت أبواب العرب جميعاً.
أمام هذه الأحوال لا يستطيع الفلسطينيون أن يصنعوا جزيرة هادئة في محيط هائج. وجل ما في إمكانهم أن يصنعوه في هذه اللحظة، هو أن يسعوا إلى الوحدة، وإلى عدم تسلل التفكك العربي، وقد تسلل بالفعل، الى تفكيرهم، وإلى عدم اصابتهم بلوثة الانجراف وراء تجليات "الاسلام السياسي" بوجهيه: المتطرف والانتهازي، فربما يتمكنون من وقف التسوس السياسي، ومن زرع خمائر جديدة للمستقبل وللمقاومة، كي تستمر قضية فلسطين على بهائها ومركزيتها العربية. لكن، قبل ذلك، هل ثمة جدوى من التفكير بخيار سحب منظمة التحرير الفلسطينية اعترافها بإسرائيل لنفكر في هذا الاقتراح؟!
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها