من الواضح أن قيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" ترى أن حماية المصالح العليا لشعبنا الفلسطيني وضمان سلامة القرار الوطني المستقل وحماية منجزاته التاريخية تتطلب تقديم النصيحة للآخر الفلسطيني، في ظل حوار ونقاش جاد، ينظمه العقل الوطني.

فالأمر كما نعتقد لا يتعلق بتقاسم وظيفي هنا أو هناك، ولا بأعداد كراسي في هذا المجلس أو ذاك، والاستحواذ على مواقع ومناصب، فتجربة الحركة في إطار قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي خاضت معاركها الدبلوماسية والسياسية، ودخلت حقول ألغام كثيفة، تطلب الخروج منها تضحيات وقرارات محسوبة بدقة، يجب أخذها، كونها نتاج عمل وطني خالص، متحرر من الولاءات الخارجية، والنزعات الشخصية، وهذا ما يجب أن يعيه ويدركه ساسة حماس.

فالإقرار بقرارات الشرعية الدولية التي وافقت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بنظام سياسي فلسطيني واحد، لدولة فلسطينية موحدة جغرافيًا وسكانيًا على حدود الرابع من حزيران، محكومة بقانون واحد، وسلطة واحدة، وسلاح مشروع وحصرًا لدى مؤسستها الأمنية، والإقرار بأن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وصاحبة الولاية على السلطة الوطنية، وأن تحقيق استقلال دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، يتطلب منهم قبول النصيحة، فهذه قد توقف حملة الابادة الدموية، وتكبح خطة إعادة تشكيل الاستعمار الاستيطاني الصهيونية في كل فلسطين، وتصد خطط التهجير القسري، وتمنع منظومة الاحتلال من أخذ السابع من أكتوبر 2023 ذريعة لضرب استقرار وأمن دول شقيقة عربية كمصر وسوريا ولبنان والأردن، فهذه مسؤولية نتحملها في سياق الانتماء لأمة العرب.

أما العناد، والإصرار على العناد والتهور، فإن أحدًا في هذا العالم لن يقنعنا أن ساسة حماس ينتقمون من دول عربية مجاورة، عبر توريطها في حروب، بإيعاز من قيادة جماعة الإخوان المسلمين، والنصيحة التي يجب أن تصل لساسة حماس، أن لكل دولة عربية سياستها ومصالحها العليا، كما أن لدولة فلسطين سياستها ومصالحها العليا.

تقضي اللحظة التاريخية ألا نفكر ونعمل إلا على ضمان وجود ومستقبل الكيان السياسي الفلسطيني، ورفعه على قواعد القرار الوطني المستقل، عبر الحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والمشروع الوطني، الذي يجب الاستمرار بالنضال من أجل تجسيده في دولة فلسطينية ديمقراطية تقدمية مستقلة ذات السيادة، فالنظر بعين المصالح الفئوية، ورهن مصير الشعب الفلسطيني لأجندات سياسية خارجية، كان وسيبقى أخطر ألف ضعف من كل مخططات ومجازر وحملات المشروع الاستعماري الصهيوني العسكرية، وجرائم الحرب، وإرهاب الدولة الذي جسدته منظومة الاحتلال والاستيطان العنصرية (إسرائيل) بأفظع الصور في حملة الابادة الجماعية الدموية المدمرة على شعبنا، بذروتها في قطاع غزة.

فالسياسات، والشعارات، والأعمال العبثية اللامحسوبة، والمدفوعة بغريزة شخصية جامحة نحو أخذ مكان متقدم في قائمة صناع التاريخ، على حساب فكرة الوطن، ووجود الشعب، والتجذر في الأرض التاريخية الطبيعية، لا يمكن تفسيره إلا بعملية انتحار ذاتي، أو على الأقل، إصابة الكيان الفلسطيني بداء الشلل، يؤمن الفرصة المواتية للصهيونية الدينية التلمودية لاستكمال مشروعها، وتحقيق هدفها بالسيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية والطبيعية، خالية من شعبها، فنتنياهو ما زال يعمل بوصية (هرتزل) مؤسس المنظمة الصهيونية الذي قال، حتى يثبت مقولة الصهيونية: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

قالها بعدما رأى الحقيقة في حركة وحيوية الشعب الفلسطيني في مدنه وقراه، وآثار حضارته المتتابعة، ومظاهر حياته المتقدمة، ومنذ ذلك الحين أي أكثر من مئة عام لم تستطع المنظومة الاستعمارية الدولية، التي وجدت ضالتها في الصهيونية الدينية المغلفة بنظريات سياسية كانت تتناسب مع السائد قبل قرن ونيف، لم تتمكن من تهجير شعبنا كله من أرض وطنه رغم نكبة 1948، ليس هذا وحسب، فنحن نعتقد أن نتنياهو يحاول الآن تصحيح الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته منظمات الإرهاب الصهيونية المسلحة، التي شكلت جيشًا، أنشأ دولة، فالثلاثمئة ألف الذي بقوا صامدين في أرضهم وبيوتهم في مدن الساحل الفلسطيني، والجليل والنقب أصبحوا اليوم أكثر من مليوني مواطن فلسطيني على أرض وطنهم التاريخي والطبيعي، وأصبحنا بعد تسييد لغة العقلانية والواقعية السياسية في منهج وعمل حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، منذ منتصف السبعينيات، وبعد نظم البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، برؤية تؤمن اندماجه في المشهد السياسي العالمي، دون تأثير هذا الانسجام والتفاعل على المبادئ الأساسية، فتحقيق الممكن وتطويره وتوسعة إطار الحقوق الوطنية المنتزعة، تحتاج إلى رؤية وطنية ثاقبة، وبرامج عمل، حارقة للمصالح الفئوية الحزبية والشخصية، أي تبديد (الأنا السياسية) من منهج كل من يفكر بعمل وطني وحدوي.